إذا تحدثت عن بردى لن أجد أفصح مما وصفه الشيخ المرحوم علي الطنطاوي في كتابه دمشق .. فهو الدمشقي الذي رافق مسيرة هذا النهر ردحاً من الزمن وشرب من مياهه واستشعر بقربه أجمل أيام حياته .. يبدأ فيقول
كان بردى يخطو على مهل، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء .
(بردى) سطر من الحكمة الإلهية , خطته يد الله على صفحة هذا الكون , ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت, وروعة الماضي والمستقبل, واختصت به الأمة العربية, فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية متفجرة.
والله الذي جعل الآية المعجزة في القرآن , هو الذي جعلها في الأكوان, والله الذي أعجز ملوك الكون, وأمراء البلاغة, بسور من آيات وكلمات وحروف , هو الذي أعجز قادة العقل , وأئمة الفلسفة , بسور من بحار وأنهار وكهوف.
وما بردى إلا سورة من سور قرآن الكون , وليس إعجازه في أنه يجري ولكن إعجازه في أنه ينطق وأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور وتحت كل شبر أنقاض أمة من الأمم أمة ولدت في حجره ورضعت من لبانه وحبت بين يديه ثم قويت واشتدت وبنت فأعلت وفتحت فأوغلت ثم داخلها الغرور وحسبت أنها شاركت الله في ملكه فظلمت وعتت واستكبرت فبعث الله عليها نسمة واحدة في وادي العدم فإذا هذه العظمة وهذا الجبروت ذكرى ضئيلة في نفس بردى وأنقاض هينة في أعماقه وصفحة أو صفحتان في كتاب التاريخ وإذا بأمة تخلفها في أرضها وترثها مالها ثم يكون سبيلها سبيلها .
يخرج من بقعة في ( الزبداني) منعزلة صعبة لا يبلغها إلا من كان من أبنائها عارفاَ بمداخلها ومخارجها ..ويسير (بردى) في غور عميق لا يخرج إلى هذه الجنان الجميلة الفاتنة التي قامت على مقربة منه بل يسلك قرارة الوادي تلتطم أمواهه وتصطدم .
ثم يبلغ الفيجة فتصب فيه أمواهها العذبة الصافية الزاخرة فلا تخالطه ولا يخالطها ويسير النهر خمسين متراَ ومن إحدى جهتيه (بردى) القليل العكر ومن الأخرى (الفيجة) الكثيرة العذبة ثم يختلطان فتضيع قلته وكدورته في كثرتها وصفائها ويعدو (بردى) قوياَ عذباَ زاخراَ نحو أرض الورود والثمار .
ويبلغ (بردى) بسيمة ويبلغ (الجديدة) فيسير بين بسيمة والجديدة في أجمل البقاع على وجه الأرض ويسقي هذه الخمائل فيكون شكرها إياه ألوان الورود وأغصان الأشجار التي تتدلى من فوقه وتلمس خده لمساَ رفيقاَ وتقبل جبينه قبلة طاهرة وهو يلين تارة فترى حصبائه من صفائه ويشتد أخرى فيرغي ويزبد ويكون له منظر مرعب لكنه جميل , مرهوب لكنه محبوب .
ويبلغ بردى (الربوة) ويمشي بين النيربين ...وتترامى المقاهي على جانبيه
ثم يدخل (دمشق) فلا يصفق بالرحيق السلسل ولا يتمايل على الورود والرياحين بل يصفق بالأوحال والحشائش ويميل على الأقذار والأوساخ ويشح ماؤه وينضب ثم يضيع ويضمحل .
· من قصيدة للشاعر المهجري إيليا أبو ماضي,وقد وقف على ضفة بردى منشدا:
حي الشآم مهندا وكتابا والغوطة الخضراء والمحرايا
واهبط على بردى يصفق ضاحكا يستعطف الترعات والاعشابا
روح أطل من السماء عشية فرأى الجمال هنا, فحن, فذابا
وصفا وشف فأوشكت ضفاته تنساب من وجد به منسابا
بل أدمع حور الجنان ذرفنها شوقا ولم تملك لهن ايابا
(بردى) ذكرتك للعطاشى فارتووا وبني النهى فترشفوك رضابا
مرت بك الايام لم تخبث ولم تفسد وكم خبث الزمان وطابا
وها هو أمير الشعراء أحمد شوقي يستهل قصيدته بسلام بردى بقصيدته المشهورة عندما يقول :
سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق
فقال الشيخ الطنطاوي رحمه الله معلقاً على القصيدة :
وبــــردى .... لما قدم شاعر العرب ومر على بردى وهو يمشي بين قصر أمية ودار البلدية مشية العاجز الهرم ، قال له صاحبه مستقلا بردى مستخفا به : أهذا الذي ملأت الدنيا مدحا له ؟ إنه ترعة من ترع النيل ؟ يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائه وبعد ضفتيه .. ما درى أن بردى هو الذي يجري في الوادي زاخرا متوثبا نشيطا .. لا الذي يجري في المرجة متهافتا كليلا . . . وانه هو الذي اطعم دمشق الخبز وهو الذي زرع بساتين الغوطة وهو الذي أنار دمشق بالكهرباء وسير فيها وفي غوطتيها (الترام )وإذا قال النيل لبردى أنت ساقية من سواقيّ قال قاسيون للمقطم أنت هضبة من هضابي . وانه هو الذي لا تضيع قطرة منه واحدة على حين يمر النيل على القاهرة مر الكرام ، يقرأ عليها السلام ، ثم يحمل خيره كله ليلقيه في البحر لا يمنح القاهرة منه إلا ما تأخذه بالمضخات والنواعير التي لا تسيل إلا بمال ... فمن رأى مثل بردى في بره بأرضه وكثرة خيراته نهرا ؟ من ذتق أطيب من مائه ؟ من أبصر اجمل من واديه ؟
· ويشارك (جورج صيدح) الشعراء انبهارهم بالنهر الخالد فينشد بدوره:
حلمت بأني قريب منك يا بردى أبل قلبي, كما بل الهشيم ندى
ونصب عيني من البلدان أبدعها سبحان من أبدع السكان والبلدا
دمشق أعرفها بالقبة ارتفعت بالمرجة انبسطت بالشاطئ ابتردا
بالطيب يعبق بالوادي وأطيبه في تربة الارض غذاها دم الشهدا
امشي على الضفة الخضراء مؤتنسا بالحور والسرو والصفصاف منفردا
ملات منك يدي بعد امتلاء فمي ولو قدرت ملأت الصدر والكبدا
حتى اقول لدهر سامني ظمأً في غربتي, لن تراني ظامئا أبدا
· وقد فتنت دمشق شاعرها (عدنان مردم بك) فغنى لها وخص نهرها الخير بالعديد من قصائده الجميلة, قول الشاعر:
بردى, أكنت سوى شواهد رحمة لله لا تبلى ولا تتصرم
هرم الزمان , وما يدلك عن ندى تعطي على هرم ولا تتبرم
يمناك بحر لا تضيق بسائل وافاك يامل, او اتي يتوسم
تعطي على سنن المروءة عن رضا جزلا, ووجهك ضاحك مبتسم
صورت من فتن الجمال مشاهدا عجبا, وما تنفك كفك ترسم
· واجمل من ذلك تلك اللوحات الرقيقة التي رسمها الشاعر العربي(بشارة الخوري)!
سل عن قديم هواي هذا الوادي هل كان يخفق فيه غير فؤادي ؟
انا مذ اتيت النهر آخر ليلة كانت لنا, ذكرته إنشادي
وسالته عن ضفتيه: الم يزل لي فيهما ارجوحتي ووسادي
بردى00 هل الخلد الذي وعدوا به الاك بين شوادن وشوادي
قالوا: تحب الشام؟ قلت: جوانحي مقصوصة فيها, وقلت: فؤادي؟
· ونختم جولتنا مع قصائد الشعراء في بردى بأبيات( خليل مردم بك) وفيها وصف رائع نابع من حب صادق00
يا يوم بحبوحة الوادي على بردى شفيت غلة صادي القلب ملواح
نهر عرائسه من عبقر عزفت له ولاحت بأرواح واشباح
اذا تشعب في الوادي حسبت يداً مدت اصابعها من كف مسماح
وان تغلغل في روض كساه حلى فمن وشاح الى عقد الى داح
يختال في موكب جذلى بلا بله يحكي بشاشة اعراس وافراح
تفنن النور في تلوين بردته صبغا ونقضا بامساء واصباح
بعض القصائد منقولة عن جمعية أصدقاء دمشق
ولا تنضب مكتبة الأدب العربي من روائع الشعر في بردى ولو جعلنا منتدىً كاملاً لذكر بردى في ذاكرة الشعراء ما كفاه !
المصدر ::
المقال مأخوذ من منشورات منتدى الزبداني 2006-2008 / ا.عمر طه
اعداد
باحث زبداني
(بردى) سطر من الحكمة الإلهية , خطته يد الله على صفحة هذا الكون , ليقرأ فيه الناس ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت, وروعة الماضي والمستقبل, واختصت به الأمة العربية, فجمعت فيه تاريخها الجليل ببلاغة علوية متفجرة.
والله الذي جعل الآية المعجزة في القرآن , هو الذي جعلها في الأكوان, والله الذي أعجز ملوك الكون, وأمراء البلاغة, بسور من آيات وكلمات وحروف , هو الذي أعجز قادة العقل , وأئمة الفلسفة , بسور من بحار وأنهار وكهوف.
ويبلغ بردى (الربوة) ويمشي بين النيربين ...وتترامى المقاهي على جانبيه
وبــــردى .... لما قدم شاعر العرب ومر على بردى وهو يمشي بين قصر أمية ودار البلدية مشية العاجز الهرم ، قال له صاحبه مستقلا بردى مستخفا به : أهذا الذي ملأت الدنيا مدحا له ؟ إنه ترعة من ترع النيل ؟ يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائه وبعد ضفتيه .. ما درى أن بردى هو الذي يجري في الوادي زاخرا متوثبا نشيطا .. لا الذي يجري في المرجة متهافتا كليلا . . . وانه هو الذي اطعم دمشق الخبز وهو الذي زرع بساتين الغوطة وهو الذي أنار دمشق بالكهرباء وسير فيها وفي غوطتيها (الترام )وإذا قال النيل لبردى أنت ساقية من سواقيّ قال قاسيون للمقطم أنت هضبة من هضابي . وانه هو الذي لا تضيع قطرة منه واحدة على حين يمر النيل على القاهرة مر الكرام ، يقرأ عليها السلام ، ثم يحمل خيره كله ليلقيه في البحر لا يمنح القاهرة منه إلا ما تأخذه بالمضخات والنواعير التي لا تسيل إلا بمال ... فمن رأى مثل بردى في بره بأرضه وكثرة خيراته نهرا ؟ من ذتق أطيب من مائه ؟ من أبصر اجمل من واديه ؟
تعليقات
إرسال تعليق