استولى العثمانيون على بلاد الشام بقيادة السلطان سليم الأول عام (1516م) الموافق (922هـ) بعد معركة مرج دابق شمال حلب، وأتبعت الزبداني وأعمالها إلى والي دمشق.
وفي هذه الحقبة التاريخية التي امتدت أربعة قرون كانت الزبداني تتبع ولاية دمشق أحيانا وتتبع إمارة بعلبك في غالب الأحيان، مع العلم أن إمارة بعلبك كانت تابعة لحاكم جبل لبنان، فكانت محل نزاع بين الولاة في دمشق والأمراء في بعلبك، وهذا ما جعلها تفقد الاستقرار والأمن بعد أن تضعضعت الأحكام في الدولة العثمانية وظهرت بوادر الانقسام في أجزائها وأخذ كل وال يستقل بحكم ولايته، وامتدت يد أمراء جبل لبنان إلى بلدة الزبداني، وقامت المنازعات بينهم وبين ولاة دمشق.
فالأمراء الحرافشة الذين امتد حكمهم على الزبداني لقرون كان لهم ضرائب (خوّة) على الزبداني وكانوا يجمعون هذه الضرائب بأنفسهم أو يستعينون ببعض المشايخ (الحكام) لجمعها، وعندما يتوقف الأهالي عن الدفع فإنهم يُهاجمون وتنهب أموالهم وتخرب مزارعهم من قبل الحرافشة ووكلائهم، وعندما يحصل نزاع بين الأمراء الحرافشة وولاة دمشق يسوق الأمراء أهالي الزبداني إلى القتال معهم، ولذلك كان أهالي الزبداني يستجيرون بالقرى المحيطة بهم وهذا ما أحدث توسعا بشريا في الزبداني على حساب المراكز البشرية المحيطة بها، ولذلك نجد أن غالبية الذين يسكنون الزبداني الآن هم من أهل القرى المجاورة وخاصة قرية كفر عامر التي تقع شمال الزبداني والتي اندثرت منذ قرنين.
وقد أرهق العثمانيون والحرافشة مزارعي هذه البلدة بالضرائب التي كانت تفرض على أهل البلدة جميعا وخاصة أصحاب الأراضي الواسعة الذين كانوا يدفعون ضرائب مضاعفة كانت في كثير من الأحيان تزيد على ثمن الأراضي نفسها فنتج عن ذلك أن أصحاب الأراضي الواسعة كانوا يتنازلون لمن لا أرض لهم من أهل البلدة أو من أهل القرى المجاورة عن بعض أراضيهم ويدفعون لهم الأموال فوق الأرض خوفا من بطش جامعي الضرائب، وهذا النمط من الملكية لا نظير له على الإطلاق.
ولو نظرنا إلى توزع العائلات الزبدانية على الأحياء في البلدة لوجدنا أن كل عائلة مختصة بحي معين يسمى باسمها وكذلك الأراضي موزعة على العائلات بنفس الطريقة، وهذا لا يحصل إلا بقرار، ولذلك فإني أميل إلى ما أورده أحد الباحثين في توزيع الملكية وتأسيس بلدة الزبداني على أن ذلك تم في القرن الأول من العهد العثماني (1516ـ 1600م)، حيث اجتمع رؤساء العشائر في الزبداني والقرى المجاورة مثل كفر عامر والسفيرة والغجري والكبري وغيرها وقرروا هذا النمط من السكن مع هذا النمط من الملكية، مع العلم أن هناك أكثر من عشر عائلات موجودة في الزبداني منذ حوالي الأربعة إلى خمسة قرون.
يقول الأستاذ حسين إسماعيل في رسالته (الزبداني عبر التاريخ): ((إن تاريخ الزبداني القديم المليء بالمعارك والمناوشات التي كانت تحدث هنا يشير إلى أن السكان لم يعرفوا فترة استقرار سادت في هذه البلدة حوالي خمسة قرون خلت كالتي يعيشونها في هذه الفترة التي تمتد إلى ما قبل نصف قرن تقريبا (1917ـ 1967م). وقد كان لهذه الظاهرة تأثير على الملكية وتوزيعها والتي كانت تتصف في السابق بأنها كانت موزعة توزيعا عادلا على السكان، ولكن الآثار التي نشأت عن عدم الاستقرار كانت تتدخل في هذا التوزيع مما أدى إلى حصرها في أيدي أفراد معدودين أو فئة محددة عن طريق الشراء مرة والاغتصاب أخرى. وقد ابتليت البلدة وسكانها بتسلط الأمراء حكام المناطق المجاورة في لبنان، بينما هي تابعة إداريا لحكم والي دمشق. ولموقعها في منطقة الحدود كان يلحقها الخراب والدمار بفعل الحروب بين هؤلاء الولاة والحكام بالإضافة إلى ما يحدث من الاقتتال والغارات بين سكانها والقرى المحيطة بها، كما إن الحروب التي كانت تحدث بين الأمراء والعائلات في جبل لبنان كانت تمتد نارها لتشمل هذه الأرض وتنشر الخراب في أرجائها. وعُرفت هذه الظاهرة منذ أن خضعت البلاد العربية لحكم العثمانيين وخاصة إبان ضعف الدولة وتفككها، وقد خربت البلدة من جراء هذه الحروب عدة مرات، كما أحرقت قرية البترونة في جنوب غرب الزبداني. وقد امتدت أيدي أمراء وأفراد هذه القوات إلى القرى المغلوبة على أمرها في طلب المعونات المادية التي كانوا يجبونها بوسائل مختلفة عن طريق النهب والسلب أو الغرامات على أصحاب الملكيات وتحصيلها بالقوة، وكانت تبلغ أحيانا أضعاف ثمن الأرض. وقد نشأت ظاهرة مميزة نتيجة ذلك لم تعرف في بلاد أخرى وهي أن الأقوياء وأصحاب الملكيات كانوا يتنازلون عن قسم من أملاكهم للفقراء الذين لا يملكون، وإذا ما رفض هؤلاء يعمدون إلى دفع المال لهم أو يجبرونهم على قبولها، ويمكن اعتبار هذه الظاهرة بمثابة إعادة توزيع للملكية شملت جميع الأراضي وعمت فائدتها مختلف طبقات السكان. ومن طرائف الأمور أن الأسباب التي أدت إلى توزيع الملكية هي نفسها قد ساهمت مرة ثانية في حصرها بأيدي فئة من السكان سيطرت على معظم الأراضي الزراعية وسخرت الآخرين للعمل فيها مقابل الحصول على قوتهم بعد أن فرضوا سيطرتهم على البلدة بأن وطدوا علاقاتهم مع أمراء الجبل واستعانوا بهم في القضاء على خصومهم وكل من حاول الثورة على سلطانهم مقابل تلبية طلباتهم من الغلال والمال وأحيانا الرجال للمساهمة معهم في اقتتالهم الذي لم يعرف التاريخ يوما خمود ناره. وحين كثرت الاعتداءات على الزبداني وسكانها من قبل الفرقاء المتحاربين، ولم يستطع هؤلاء رد هذه الغارات والوقوف في وجه الغزاة وهم على حالتهم من التفرق والانشقاق، شعروا بأن حياتهم جميعا مهددة بالخطر إذا لم يتخذوا حلا مناسبا يبعدهم عنهم، لذلك تنادى رؤساء العشائر والعائلات إلى اجتماع عام قرروا فيه وجوب اتخاذ موقف موحد، كما نقلوا جميعا مراكز سكناهم إلى البلدة الحالية بعد أن كانت كل عائلة تقيم في مكان محدد مثل كفر عامر والكبري وشحرايا والسفيرة وغيرها، وتبرع أصحاب الأرض في الزبداني لأبناء القرى الأخرى بمساحات واسعة لبنائها والسكن فيها. ولا تزال ملكية أفراد كل عائلة محصورة تقريبا في المكان الذي كانوا يقيمون فيه كما هو الحال في الكبري التي كان يقطنها آل عبد الحق وداود وسارة، والسفيرة التي كان يقطنها آل الدالاتي (وكفر عامر التي كان يقطنها آل التل وآل عواد وآل المويل وآل عز الدين). ومنذ ذلك التاريخ بدأت تظهر حركة انتقال في ملكية الأرض شملت جميع أرجاء المنطقة وأدت إلى طمث هذا التمركز وبعثرت أملاك الأفراد في جميع الجهات، كما انحصرت رغبة الأهالي في الحصول على أراضي قريبة من مركز سكنهم وأهملت البعيدة منها وخاصة في جنوب البلدة أي ما تعرف بأرض السهل، وانخفضت أسعارها عن غيرها بينما أخذت بالارتفاع في المكان الأول، وساعد على هذا الاختلاف في الأسعار عدة أسباب منها: توفر المياه في الأولى، وقربها من البلدة، وإمكانية العمل المتواصل فيها، وإمكانية حمايتها. بينما الأخرى يصعب الوصول إليها بفترة وجيزة، ثم إن المياه قليلة، ويصعب الري والعمل المتواصل فيها، بالإضافة إلى ما كانت تتعرض له من السلب والتخريب. وكان لتهافت الناس على الأملاك القريبة بعض الأضرار في تجزئتها وجعلها مساحات صغيرة، كما كان للميراث نفس الآثار. ولهذا نرى أن الأراضي الزراعية تختلف مساحتها قلة واتساعا بنسبة طردية مع قربها أو بعدها، ومما يجدر ذكره أن الملكيات الكبيرة التي نشاهدها في مناطق كثيرة والتي تبلغ آلاف الهكتارات لا نجد لها مثيلا في الزبداني)).
وذكر الزبداني بامخرمة الحميري (وفيات 947هـ) الموافق (1540م) في معجمه (النسبة إلى المواضع والبلدان) فقال: ((الزبداني: نسبة إلى زبدان بموحدة ودال مهملة وفتحات، ثم ألف ونون، قرية بين دمشق وبعلبك كثيرة الأشجار والمياه في غاية الحسن والطيبة، وهي أرض فيحاء جميلة النظر، تتراكم عليها الثلوج في أيام الشتاء، وتنبت أنواع الأزهار في أيام الربيع، أقام فيها فتيان بن علي الشاغوري مدة، وله فيها أشعار لطيفة. وينسب إلى زبدان المذكورة من المحدثين هبة الله بن محمد بن جرير، روى ابن ملاعب حضورا. ومدرسها محيي الدين يحيى بن محمد الزبداني، وقال الذهبي، حدّثنا عن أبي الزبيدي)).
وفي سنة (1552م) الموافق (960هـ) توفي في القسطنطينية ودفن فيها بالقرب من ضريح أبي أيوب الأنصاري الشيخ العلامة زين الدين اليعفوري (نسبة إلى يعفور من أعمال وادي بردى)، وقد ترجم له النجم الغزي في كتابه (الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة) فقال: ((رجب اليعفوري: رجب بن علي بن الحاج أحمد بن محمود، الشيخ العلامة زين الدين اليعفوري، الحموي، الشهير بالعزازي، الشافعي، وهو جد صاحبنا العلامة تاج الدين القطان النحوي الشافعي لأبيه، كان ممن تتلمذ للشيخ العلامة شمس الدين البازلي الكردي، والحموي، ثم أخذ بمصر في سنة ثلاثين وتسعمائة على الشيخ العلامة المسند عبد الحق السنباطي كتب الحديث، وتفقه به وبالشيخ العلامة شمس الدين النشلي، والشيخ العلامة شهاب الدين الرملي وغيرهم، ثم دخل إلى دمشق، فقرأ على شيخ الإسلام الوالد في المنهاج للنووي مقسما سنة خمس وثلاثين وتسعمائة شركة العلماء شمس الدين الجبرتي، والعلامة عبد القادر الصهيوني، والعلامة إبراهيم اليمني تقسيما كاملا، وكان الشيخ رجب هو القارئ في الأول، ثم حضر تقسيم الحاوي أيضا على الشيخ الوالد بقراءة العلامتين شمس الدين العجلوني وعلاء الدين بن أبي سعيد الحموي، ثم أخذ معهما قسما ثالثا، ثم قرأ عليه في ألفية ابن مالك تقسيما أيضا، واعتنى بجمع المهم من فتاوى شيخ الإسلام الوالد، فجمع منها ثلاث مجلدات، وحضر عند الشيخ أيضاً في دروس الشامية وغيرها من الدروس العامة في الرافعي الكبير والروضة، ثم عاد إلى بلده حماة، واستقر بها مفتيا مدرسا مع مكاتبة إلى شيخ الإسلام الوالد، ومراجعة في كثير من المسائل، وكان مخلصا في صحبته ومصافاته، وكان شيخ الإسلام يترجمه بالفضل والصلاح، وفي تاريخ ابن الحنبلي أنه مر بحلب سنة إحدى وخمسين متوجها إلى إسلام بول لعزله عن تدريس عصرونية حماة، ثم توجه مرة أخرى إليها، فتوفي بالقسطنطينية في المحرم سنة ستين وتسعمائة، ودفن بالقرب من ضريح أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه)).
وفي سنة (1554م) الموافق (962هـ) ورد اسم الزبداني مع كفر عامر والحارة وقرية اسمها الكرمة في نواحي الزبداني في وقفية أوقفها السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول العثماني على تكيته المشهورة بدمشق: التكية السليمانية، وذلك بحكم انتقالها إليه شخصيا من أبيه السلطان سليم الأول الذي ورث إقطاعيات ملوك الشراكسة وأمرائهم حينما قضى على دولتهم واستولى على بلاد الشام ومصر، وفي الوقفية المذكورة عدا القرى المذكورة آنفا: العادلية وزاكية (ناحية الكسوة) وصيدنايا والمعرة (ناحية التل) والمزة وقبر الست والغوطة الغربية وأشرفية صحنايا وأشرفية وادي بردى) وكثير من قرى قضاء بعلبك. ويقول الأمير جعفر الحسني في مقالة في مجلة المجمع العلمي العربي: ((ولو سلمت إلى يومنا أوقاف التكية السليمانية لكفى ريعها لإنشاء عدة جامعات عصرية وعشرات المؤسسات الخيرية، وقد تم تقدير عشر هذه الأوقاف بموجب حكم صادر عن محكمة التمييز السورية عام 1931م بنحو ثلاثة ملايين قرش ذهبي تركي)).
وفي وفيات سنة (1586م) الموافق (994هـ) ذكر النجم الغزي في كتابه (الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة) الشيخ عبد الرحيم الزبداني إمام وخطيب جامع القلعة بدمشق فقال: ((محمد إمام القلعة: محمد الشيخ الفاضل الصالح، الشيخ نجم الدين الصفدي الحنفي، إمام وخطيب الجامع بقلعة دمشق، كان ممن لحق سيدي عبد القادر بن حبيب الصفدي، وأخذ عنه، وكان شيخ الإسلام الوالد يكرمه، وكف بصره ففرغ عن الإمامة والخطابة للشيخ عبد الرحيم الزبداني، ثم زوجه بنته فأولها ولده محمدا، وتوفي في حدود أربع وتسعين وتسعمائة، رحمه الله تعالى)).
حوالي (1600م) الموافق (1008هـ) خربت قرية عين حليا والتي تقع شمال الزبداني بين قرية عين حور وقرية سرغايا إلى جهة الغرب وتطل عليها قرية بلودان. وقد ذكر ذلك السياسي السوري فارس الخوري في مذكراته فقال: ((وقد أخبرني جدي جبور (الجد الأول) أن الخوري جرجس أبو رزق (الجد السادس) نزيل الكفير مع أخيه عبد الله أبو رزق وهما من سكان قرية عين حليا من أعمال الزبداني، وقد خربت قريتهما بسبب فتنة قامت بين أهلها حوالي سنة 1600 بعد الميلاد)). وقالت حفيدته الأديبة كوليت خوري في التعقيب على كلامه: ((كانت قرية عين حليا تقع في سهل الزبداني، وقد اندثرت كليا ولم يبق منها سوى الآثار، والفتنة التي وقعت في عين حليا قد سمعت عنها من أهالي بلودان الرواية التالية: كانت الصبية عائدة من العين وعلى كتفها الجرة الملأى، فالتقت بالشاب الذي اعترض طريقها قائلا: أنا عطشان، وعندما اكتفت بنظرة شذراء ترد بها عليه رفع يده وأمسك بالجرة وأمالها إلى أسفل وشرب منها، كانت الفتاة من أسرة والشاب من أسرة، ولا أعرف من كان من بيت رحمة ومن كان من بيت هلال، المهم أن أسرة الفتاة التي اعتبرت تصرف الشاب إهانة تمس العرض قررت أن تُخطب ابنتها من أحد أقربائها ودعت أهل القرية إلى حفلة الخطوبة، ورتب أخو الفتاة الذي يدعى كيروز جميع الأمور فوقف كل شاب من أسرة الفتاة متأهبا، وفي لحظة محددة من الاحتفال دنت الفتاة العروس فجأة من الشاب الذي شرب من الجرة فأساء إلى العرض، وسحبت من صدرها سكينا وطعنته وهي تصرخ: الحقني، أنا أختك يا كيروز، وهب كيروز ومعه شبان الأسرة، وقامت معركة بين الأسرتين، ولم تهدأ إلا بعد أشهر باحتراق القرية بأكملها، ومهاجرة سكانها، وهكذا كما قال المسنون من أهالي بلودان: راحت الضيعة بشربة مي)). قلت: قد سمعنا من المعمرين مثل هذا الكلام عن خراب قرية كفر عامر وهي مجاورة لقرية عين حليا ومثل هذا الكلام يقال في خراب معظم القرى القديمة، ويبدو أن هذا الكلام هو كلام أسطوري أدبي قصصي يعجب الخيال البشري فيلفق له لأنه يحب سماعه، والمهم بالنسبة لنا هو معرفة تاريخ خراب هذه القرية التي ورد ذكرها في عشرات الوثاق التاريخية.
وفي سنة (1602م) الموافق (1010هـ) توفي في صالحية دمشق الفقيه والمحدّث والفرضي إبراهيم بن محمد المعروف بابن الأحدب، وقد ترجم له المؤرخ محمد المحبي في كتابه (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) فقال: ((الشيخ: إبراهيم بن محمد المعروف بابن الأحدب، الزبداني الأصل، المحدّث، الفرضي، الشافعي المذهب، الرحلة، المعمر، نزيل صالحية دمشق، قدم دمشق ونزل بصالحيتها، وأخذ الفرائض والحساب عن محمد بن إبراهيم النجدي الذي كان مقيما بالمدرسة العمرية بصالحية دمشق، وكان يلحق بابن الهائم في هذين الفنين، وأخذ الحديث عن البدر الغزي والشمس محمد بن طولون الحنفي إمام السليمية والشرف موسى الحجاوي الحنبلي والشهاب أحمد الطيبي والشيخ منصور بن إبراهيم بن محب الدين والبرهان النسيلي الشافعي والشهاب أحمد بن حجر المكي السعدي، وصار معلما للأطفال في مكتب قبالة المدرسة العمرية، ثم لازم آخر أمره السليمية يُقرئ الناس في الفنون، وانتفع به خلق كثير من أجلهم العارف بالله تعالى أيوب بن أحمد الخلوني الصالحي والعلامة علي بن إبراهيم المعروف بقبردي، ورأيت في بعض المجاميع لبعض العصريين أنه كان يُنشد الشعر وأنشد له هذين البيتين وهما:
يا سادتي أهل الوفا * من عزكم أرجو وفاة
إن غبت عنكم ساعة * عدمت نفسي والحياة
وكانت وفاته سنة عشرة بعد الألف هكذا رأيته في تاريخ البوريني، ثم راجعت ذيل النجم فرأيته ذكر أن وفاته كانت في سنة اثنتي عشرة بعد الألف، وترجح عندي هذا أولا ثم رأيت بعض تراجم بخط الشيخ محمد المرزناتي الصالحي الأدهمي وهو من معاصري ابن الأحدب ذكر أن وفاته كانت نهار الاثنين ثالث عشر شهر رجب سنة عشرة بعد الألف، وذكر يعني المترحم أن ولادته كانت في سنة إحدى وعشرين وتسعمائة. والزبداني بفتح الزاي والموحدة والدال المهملة ثم ألف بعدها نون وياء، نسبة إلى ناحية من نواحي دمشق، سميت باسم أحد قراها، ومنها خرج صاحب الترجمة وكان أهله به من مشاهير تلك الدائرة، وهذه الناحية مشهورة بطيب الهواء والتربة، ومنها يجلب التفاح الزبداني، ومن أمثال المولدين من عاشر الزبداني فاحت عليه روائحه، يعنون تفاحها أو أهلها، والله تعالى أعلم)).
وفي سنة (1622م) الموافق (1031هـ) كان الأمير يونس الحرفوش حاكما على بعلبك والبقاع وتتبع له الزبداني وأعمالها، وكان ابنه حسين الحرفوش حاكما على البقاع ومركزه قب إلياس، وكان الأمير يونس يتبع لوالي دمشق. وفي هذا العام جرد الأمير فخر الدين المعني عليهما حملة وطردهما، وجعل الأمير قاسم الشهابي حاكما على وادي التيم والزبداني، وأصبحت الزبداني تؤدي الخراج إلى صاحب لبنان بعد أن كانت تؤديه إلى والي دمشق. وتفصيل ذلك كما ورد في (تاريخ سورية) للمطران يوسف الدبس: ((وفي سنة (1622م) عزل والي دمشق جماعة الأمير فخر الدين عن ولاية نابلس وعجلون، وبلغ الأمير فخر الدين أن ذلك كان بدسيسة من الأمير يونس الحرفوش فساءه ذلك، ونهض من بيروت إلى قب إلياس وطلب إليه الأمير حسين ابن الأمير يوسف الحرفوش فحضر لديه، فادعى عليه الأمير فخر الدين أنه اشترى من الأمير منصور بن فريخ دار قب إلياس وأرض تل تمرا وغيرهما من العقار في البقاع وقد غصب هو وأبوه هذه الأملاك فيلزمهما أن يرفعا يديهما عنها، فأنكر ذلك الأمير حسين وفر إلى بعلبك، وتوجه هو وأبوه إلى الزبداني، فأمر الأمير فخر الدين بنهب البقاع فنهبها رجاله وضبطوا ماشيتها وأخذوا كل ما وصلت أيديهم إليه إلى لبنان وهدموا دار قب إلياس، فتوجه الأمير يونس الحرفوش إلى دمشق ودفع لواليها ألف ذهب زيادة في المال المرتب على صفد وعجلون فولاه سنجق صفد وولى على عجلون الأمير بشير قانصوه حليف الأمير يونس. وتعصب لهما الأمير أحمد طربيه والشيخ أحمد الكناني من حكام تلك النواحي، فأرسل الأمير فخر الدين إلى الأمير علي الشهابي والي حسن الطويل أن يحرقوا قرى عجلون، فأحرقوا منها فارا وحلاوة والخربة وأحرق كيوان آغا ناظر عكا جميع قرى الكرمل...وسعى الشيخ درويش وكيل الأمير فخر الدين في الأستانة فنال أمرا بتقرير سنجق صفد على الأمير علي بن فخر الدين، ولما بلغ ذلك الأمير فخر الدين توجه إلى صفد فهرب الأمير يونس الحرفوش من أمامه، فرتب الأمير فخر الدين أمور صفد وعرّج عند عودته على الكرك فقتل ثلاثين من رجلا من أتباع الأمير يونس الحرفوش وأحرقوا الكرك وسرعين وغيرهما من قرى بيت الحرفوش. ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الأمير يونس الحرفوش كان قبلا يسلم قسما من أملاكه إلى مزارعين من الشوف، ولما تولى بلاد بعلبك استفحل أمره واقتنى نحو أربعين قطيعا من الماعز واشتغل نحو ألف فدان في حراثة الأرض لحسابه ومنع أهل الشوف من زراعة البقاع)).
وبعد الأمير قاسم الشهابي حكم الزبداني الأمير علي الشهابي ابن الأمير قاسم الشهابي، وكان يؤدي الخراج إلى الأمير فخر الدين المعني. ولما وُشي بالمعني إلى السلطان وصدرت الأوامر بمحاكمته اغتنم الحرافشة الفرصة واستلبوا كثيرا من بلاد المعني ومنها الزبداني، وبذلك عادوا لحكمها.
وفي سنة (1627م) كانت الزبداني مركزا لأسقفية وكان يرأس الأسقفية الأسقف يواكيم. وفي سنة (1628م) اجتمع برأس بعلبك مجمع كنسي ووضع قوانين كنسية خاصة باختيار الأساقفة، وكان من المجتمعين أسقف الزبداني يواكيم. وهذا الأسقف نفسه من جملة المطارنة الذين قلدوا عصا الرعاية للبطريرك ملاتيوس الصافري الذي سمي باسم معلمه أنتيموس الثالث ولكنه أنتيموس الرابع (1648م). (أوراق الخوري إلياس داود).
وفي وفيات سنة (1633م) الموافق (1042هـ) ذكر السيد عبد الحي الكتاني في كتابه (فهرس الفهارس) المحدِّث والمعمر الشهاب أحمد بن يونس العيثاوي نسبة إلى عيثا الفخار بالقرب من الزبداني وقد كانت تابعة لها لفترات تاريخية طويلة وهي الآن ضمن الحدود اللبنانية وترجم له فقال في ترجمته: ((العيثاوي: هو الإمام العلاّمة المعمر الرحلة شهاب الدين أحمد ابن يونس العيثاوي الدمشقي الشافعي، ولد سنة 942هـ، وقفت على ذلك في استدعاء كتبه محمد بن محمد بن عبد المعطي البعلي المحيوي الشافعي يستدعي فيه الإجازة من العيثاوي المذكور لنفسه وللقاضي محمود العدوي الصالحي، عدد في هذا الاستدعاء أسانيده، عندي منه كراسة ذكر فيها أنه يروي عن والده بركة الشام يونس وشيخ الإسلام الشمس محمد بن علي بن طولون الحنفي الصالحي، وهو عمدته في الحديث، وعلاء الدين علي بن عماد الدين الشافعي. ويروي العيثاوي المذكور الصحيح عن والده عن شيخ الإسلام أبي الصدق تقي الدين أبي بكر بن محمد بن محمد بن عبد الله البلاطسي الشافعي والشيخ تقي الدين يرويه عن والده ومحمد بن عبد الرحمن اللخمي الفرياني وعن شيخ الإسلام نجم الدين بن قاضي عجلون وأخيه تقي الدين والحافظ البرهان الناجي والجمال الباعوني، قال الفرياني: حدثنا شيخنا أبو الحسن محمد بن أحمد ابن موسى بن عيسى الأنصاري البطرني عن الحجار بأسانيده، ثم ساق أسانيد العيثاوي في بقية الستة والموطأ ومسند الشافعي وأحمد ومسند الفردوس وتفسير البغوي ومصابيحه وتفسير الثعلبي والقرطبي وترغيب المنذري وإحياء الغزالي ومؤلفات النووي وعوارف السهروردي وتبصرة ابن الجوزي. ويروي العيثاوي المذكور عن والده وابن طولون وأحمد الطيبي والبدر الغزي والرملي والكمال ابن حمزة عن زكريا ما له، وكانت وفاته سنة 1025 عن 84 سنة، قال المحبي: وعمَّر حتى لم يبقَ من أقرانه في دمشق وحلب ومصر والحجاز أحد. أروي ما للمذكور بالسند إلى الرداني عن الشمس محمد بن بدر الدين البلباني الصالحي عن العيثاوي المذكور)).
وفي سنة (1651م) رسم البطريرك مكاريوس الثالث جراسيموس مطرانا على الزبداني والفرزل وسلمه عصا الرعاية. وفي سنة (1673م) رسم رومانوس أسقفا على الزبداني. (تاريخ الكرسي الأنطاكي، الدكتور أسد رستم).
وفي سنة (1660م) الموافق (1070هـ) فرغ محمد مالك الأشرفاني نسبة إلى الأشرفية من قرى وادي بردى من تأليف كتابه (عمدة العارفين في قصص النبيين والأمم السالفين)، وكان معاصرا للإمارة المعنية في لبنان، وقد ترجم له خير الدين الزركلي في كتابه (الأعلام) فقال في ترجمته: ((الأشرفاني (بعد 1660م) محمد مالك الأشرفاني: مؤرخ قصصي من علماء بني معروف (الدروز) نسبته إلى الأشرفية من قرى الغوطة بدمشق. كان معاصرا للإمارة المعنية (في لبنان) بعد مقتل الأمير فخر الدين المعني (1665م) وقام برحلات كثيرة. وصنف كتاب (عمدة العارفين في قصص النبيين والأمم السالفين، مخطوط) ثلاثة أجزاء في ثلاثمائة ورقة قال صاحب كتاب (التنوخي): فرغ من تصنيفه سنة (1660م) ولم يعرف تاريخ وفاته ولا مولده. وقال: إن علماء بني معروف اليوم لا يبلغ أحدهم رتبة العلم ما لم يكن متقنا الوقوف على (عمدة العارفين)).
وذكر الزبداني الرحالة محمد ظلي بن درويش المتوفى سنة (1679م) الموافق (1090هـ) في كتابه (سياحتنا) فقال: ((إلى أن انتصف النهار فوصلنا (تكية الدورة)، وهو مكان لطيف إلى جانبه طاحون، وهي انتهاء وادي بردى وابتداء أرض الزبداني، فأقمنا بها بقية ذلك اليوم إلى أن دخل الليل فملنا إلى النوم إلى آخر الليل، ثم قمنا إلى الرحال وشرعنا في الترحال والصبح تلوح أعلامه، إلى أن انمحى الليل وظلامه، فوصلنا إلى أرض الزبداني ونظرنا إلى القاصي منها والداني، فإذا هي جنة الله تعالى في أرضه، محفوفة بالأشجار مفروشة بالرياحين والأزهار، جداول الماء منسابة على حصباء كاليواقيت واللآلئ، إلى أن وصلنا إلى بَلِيتار))، قلت: وقرية التكية هذه كانت قد تهدمت سنة (636م) إبان الفتح الإسلامي ثم أعيد بناؤها، ثم تهدمت بسبب الفيضانات والزلازل حوالي عام (1300م) وأعيد بناؤها، وأصبحت تحمل اسم تكية الدورة، حيث كانت تقدم الضيافة على مدى الساعة أي: بشكل دائري، ثم تخربت حوالي عام (1700م).
تعليقات
إرسال تعليق