التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الزبداني في العهد الإسلامي "8"

حوالي سنة (580هـ) الموافق (1185م) بدأت النوبات في الزبداني، أي: في عهد دولة صلاح الدين الأيوبي، واستمرت حتى منتصف القرن العشرين تقريبا (1950م)، وهي شكل من أشكال الاحتفالات الدينية حيث تدق الطبول والصنجات والخليليات وترفع الأعلام التي تحمل الشعارات الدينية وتقام
الدبكات والعراضات والرقصات وتزار القبور، وكان الغاية من هذه النوبات زمن الأيوبيين هو تحميس الناس وشدهم إلى القتال وإظهار الكرامات الدينية أمام الصليبيين كالدعسة وضرب الشيش، وقد استمرت النوبات بعد جلاء الفرنجة كنوع من التقاليد الدينية في الطرق الصوفية خاصة زمن العثمانيين وحتى منتصف القرن العشرين. وكانت تقام النوبات في الزوايا وهي أماكن مخصصة لأتباع الطرق الصوفية، وفي النصف الأول من القرن العشرين كان في الزبداني خمس زوايا وهي: زاوية آل الضبة، وزاوية آل حمدان، وزاوية آل المجذوب، وزاوية آل صالح، وزاوية آل عواد. وفي الخميس الكبير الذي يأتي في شهر نيسان من كل عام تخرج نوبة آل الضبة، وفي اليوم التالي يوم الجمعة تخرج نوبة آل حمدان، ويوم السبت تخرج نوبة آل المجذوب، ويوم الأحد تخرج نوبة آل صالح ونوبة آل عواد معا، ويوم الاثنين تخرج النوبات الخمسة معا. ومعنى خروج النوبة هو أن مجموعة من الرجال يخرجون من الزاوية المخصصة لهم وهم يهتفون الهتافات الدينية ويضربون الطبل ويدقون الخليليات ويرفعون الأعلام الدينية ويزورون القبور ويقيمون عرضا يُظهرون فيه الكرامات الدينية كضرب الشيش والدبوس والدعسة، وكانت نوبة آل عواد مختصة بإقامة الدعسة من بين سائر النوبات. وآخر نوبة حصلت سنة (1983م) بمناسبة وفاة أحد أصحاب تلك النوبات وهو الشيخ رفاعي عواد حيث مشت النوبة مع الجنازة، ثم سنة (1984م) حيث خرجت النوبة في جنازة الشيخ أحمد عواد. وقد ذكر الأستاذ حسين إسماعيل في كتابه (الزبداني عبر التاريخ) حول هذا الموضوع فقال: ((خميس المشايخ: أوجد هذا الخميس حين تم الصلح بين العرب والصليبيين، واشترط هؤلاء أن يزوروا بيت المقدس ويقيموا الاحتفالات هناك، وقد شك صلاح الدين في أمرهم فأقام هذه الاحتفالات ودعاها بهذا الاسم، وبذلك استطاع أن يجمع عددا كبيرا من المسلمين لمقابلة تجمعات الصليبيين ومجابهتهم فيما لو أرادوا القيام بحركة ما، وكان ابتداء عملها في القدس وتسربت إلى باقي المجتمعات، وهذه التجمعات كانت منظمة تنظيما عسكريا، فالشيخ ويقابل رتبة أمير، والنقيب مثل المدير، وهناك الشاويش والمساعد، فمنهم من يختص بالسلاح والإشراف عليه والبعض بالطبول والمزامير وآخرون للإعلام وتنظيم الأفراد. وموعد هذا الخميس قبل عيد الفصح الشرقي بأربعة أيام بحيث يكون آخر يوم منه أول أيام عيد الفصح، وقد انتقلت هذه العادة إلى مختلف المجتمعات الإسلامية وخاصة العربية منها، وسوف نأتي على ذكر هذه الظاهرة كما كانت تحدث في الزبداني منذ فترة قريبة ثم بيان ما آلت إليه حديثا. كانت تبدأ الاجتماعات قبل الخميس بعشرين يوما، ويُجري أتباع كل طريقة بعض التمرينات على استعمال الآلات الصوتية كالطبل والمزهر والصنجات بالإضافة إلى بعض ألعاب الفروسية كالسيف والترس وغيرها، وتتم في أثنائها كذلك الاتصالات مع الفئات الأخرى من أتباع الطرق الدسوقية والرفاعية لتسوية الترتيبات اللازمة من حيث إعلان العيد ومن سيبدؤه والأماكن التي يذهبون إليها، بالإضافة إلى أمور تنظيمية أخرى. وقد جرت العادة أن يبدأ أتباع الطريقة الدسوقية هذا الخميس ومن ثم الآخرون في اليومين الثاني والثالث بالتناوب. وأول يوم من هذه الاحتفالات تجري في خان الفندق (فسحة من الأرض جنوب شرقي الزبداني بحوالي 2كم ومساحتها خمسة دونمات وفيها عدة ينابيع حيث كان يقام السوق العام في الماضي وهي الآن سوق لبيع وشراء الماشية)، وأما اليومان الثاني والثالث ففي مكان آخر يدعى النبي عبدان (شمال الزبداني 3كم ويحوي كذلك عدة ينابيع ومجاري مياه)، وهذه الاحتفالات تدعى حسب عرف أهالي الزبداني بالنوبة، وهي تجري على الشكل التالي: يجتمع الأفراد الذين سيشتركون بالاحتفال في صباح ذلك اليوم في بيت شيخ النوبة ويبدؤون في دق الطبل والمزاهر مدة ساعة من الزمن بينما يستعد الباقون من حملة الرايات والأسلحة والدبابيس ويجهزونها استعدادا للمسير، وفي هذه الأثناء يكون قد تجمع عدد كبير من الأهالي الموجودين بالقرب من المكان، ويسير الجميع في هذه النوبة التي يتقدمها حامل السنجق (الراية) والمساعدون ويتبعهم حملة الأدوات الصوتية، ويتقدم الجميع عدد من المشايخ الذين يتلون الأناشيد الدينية على أصوات المزاهر والصنوج التي تملأ أرجاء المكان، ويسير الجميع حول البلدة متجهين نحو خان الفندق في اليوم الأول أو النبي عبدان في اليومين التاليين، وأثناء سير هذا الموكب ينضم إليه أعدد كبيرة من الأهالي بين صغير وكبير حتى يبلغ عدد أفراده أضعاف ما كان عليه في بدء الاحتفال، ويتجه الجميع نحو مكان التجمع على الشكل الذي ذكر، وقد جرت العادة أن يتوقف الموكب في الساحات العامة لإجراء بعض التقاليد التي ترافق هذه الظاهرة كالدعسة وضرب الدبوس واللعب بالسيف والترس وغيرها. أما الدعسة فهي كالتالي: يتمدد عدد من الأفراد على الأرض متلاصقين إلى جانب بعضهم البعض باتجاهين متخالفين، ويقف المتفرجون في صفين متوازيين يفصل بينهما الفراغ الذي يملأه المتمددون على الأرض، ثم يؤتى بفرس يمتطيها أحد الأفراد، ويقف شيخ النوبة أمام الفرس أو يمسك بها ويقرأ بعض الجمل ولا ندري ما هي، بينما يكون ضاربو الطبل والصنوج يملؤون الأفق بالأصوات، ويقود بعد ذلك ممتطي الفرس هذه وتقفز مضطربة من كثرة الضجيج وتطأ على المتمددين وهي مسرعة، وحين تقطع المسافة التي تتجاوز أحيانا العشرة أمتار ترتفع الزغاريد من النساء والرجال، ويتقدم الجميع مستوضحين من هؤلاء المتمددين فيما إذا شعروا بألم، وقد يكشفون ملابسهم ليروا بأم أعينهم إن كان هناك أثر ما. وأما ضرب الدبوس (وهو قضيب رفيع من الحديد يبلغ قطره في أغلظه سنتيمترا ومدبب أملس في رأسه الآخر) فهي أن يغرس هذا الدبوس في أحد أنحاء الجسم أو في بطنه أو خده بحيث يخرج من الطرف الآخر، وتجري هذه العملية بمرافقة الذكر المتواصل، ويسيرون مسافات طويلة والدبابيس مغروسة في أجسامهم، وحين يريدون انتزاعها فيجب أن يكون ذلك بيد الشيخ الذي يضغط على مكان الوخز ويسحبها والبعض ينتزعونه بأنفسهم. كما إن هناك بعض الألعاب الأخرى كالسيف والترس والرقصات الشعبية وغيرها. ويكون في صباح هذا اليوم قد سبق الجميع إلى مكان التجمع عدد كبير من الباعة الذين يحضرون من القرى المحيطة بالزبداني لبيع أنواع المأكولات المختلفة التي قد تضم أنواعا لا تتوافر في البلدة وتستجلب إليها خصيصا في هذه المناسبة. وحين تصل النوبة إلى المكان يتفرق الجميع إلى عدد من التجمعات ويذهب كل منهم إلى المكان الذي يقيم فيه أفراد عشيرته، ويجتمع هؤلاء نساء ورجالا وأطفالا وتوضع أنواع الأطعمة التي تحضرها النسوة عادة منذ الصباح ويتفننون في تجهيزها، ويأكل الجميع وهم يتبادلون أنواع القصص والنكات المضحكة، ويقدم الرجال أنواع الحلويات التي يشترونها من البائعين ويوزعونها على الجميع، وتقام بعد الأكل الرقصات الشعبية، ويدعى للرقص الشباب والرجال والنساء المتقدمات في السن على أصوات العود والدربكة أو كليهما، كما تجرى المناظرات الغنائية الشعبية ويتباهى الشباب في تقديم أنواع الهدايا من المأكولات لأقاربهم أو خطيباتهم، وتجري بعد ذلك المباريات الرياضية كالقفز ورفع الأثقال وقذف الرمح وغيرها، وعند أذان العصر أو بعده يدق الطبل إعلانا للاستعداد للمسير ويعود الجميع بمثل ما أتوا به من مظاهر الاحتفال. وتكرر هذه الظاهرة ثلاثة أيام متواليات على النحو الذي ذكر في اليوم الأول)).

وفي أحداث سنة (586هـ) الموافق (1190م) ذكر ابن العديم في كتابه (زبدة الحلب في تاريخ حلب) أن القاضي الزبداني كان يكتب للملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين، وأنه ترك الكتابة لأنه لم يقبل بمضمونها، فقال تحت عنوان (غازي في حلب): ((غازي في حلب: ثم أخذ حلب من أخيه، وأعطاها ابنه الملك الظاهر، وأعطى الملك العادل بعد ذلك حران والرها وميافارقين، ليخرجه من الشام، ويتوفر الشام على أولاده. فكان ما كان، وأخرج تقي الدين من مصر فشق عليه ذلك وامتنع ا القدوم، ثم خاف، فقدم عليه. وسير الملك العادل الصنيعة لإحضار أهله من حلب، وسار الملك الظاهر، قدس الله روحه، إلى حلب، وسير في خدمته شجاع الدين عيسى بن بلاشوا وولاه قلعة حلب، وأوصاه بتربية الملك الطاهر، وأخيه الملك الزاهر، وحسام الدين بشارة صاحب بانياس وولاه المدينة، وجعل الديوان بينهما. وجعل قرار الملك الظاهر في السنة ثمانية وأربعين ألف دينار بيضا، كل شهر أربعة آلاف دينار. وكل يوم قباء وكمه، وعليق دوابه من الأهراء، وخبزه من الأهراء، واستمرت هذه الوظيفة، إلى سنة ست وثمانين إلى رجب. فورد كتاب الملك الناصر إلى ولده الملك الظاهر، يأمره بأن يأمر وينهى وأن يقطع الإقطاعات، وأن البلد بلده. وكان القاضي الزبداني يكتب له، فلم يعجبه فانصرف على حال غير محمودة)). قلت: لم أستطع معرفة من هو القاضي الزبداني؟ وما هي مكانته عند الملك الظاهر غازي حتى أنه انصرف من الكتابة للملك لأنها لم تعجبه.

وفي سنة (588هـ) الموافق (1192م) ورد ذكر الزبداني ووادي بردى في رسالة بعث بها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني وهو كبير القضاة في السلطنة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب يشرح له فيها أحوال الناس وما هم فيه من الفتن والظلم وخاصة في وادي بردى والزبداني وضرورة العمل لاستتباب الأمن وراحة الناس وتأمين حاجاتهم المعيشية، وقد ذكر هذه الرسالة أبو شامة المقدسي في كتابه (الروضتين في أخبار الدولتين) فقال: ((ولما بلغ القاضي الفاضل من قبل السلطان أنه عازم على الحج كتب إليه مشيرا بتبطيله: إن الفرنج لم يخرجوا بعد من الشام ولا سلوا عن القدس ولا وُثق بعهدهم في الصلح، فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلاطيننا سفرا مقدرا معلوما مدة الغيبة فيه أن يُسروا ليلة فيُصبّحوا القدس على غفلة فيدخلوا إليه والعياذ بالله ويفرط من يد الإسلام ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تُغتفر ومن العثرات التي لا تُقال. وحاج العراق وخراسان أليس هم مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف أو أكثر؟ هل يؤمن أن يقال قد سار السلطان لطلب نار وسفك دم وتشويش موسم؟ فاقعدوا وإلا يكون تاريخ سوء أعوذ بالله منه، ما هذه الشناعة ممتنعة الوقوع ولا مستبعدة من العقول السخيفة. يا مولانا مظالم الخلق كشفها أهم من كل ما يُتقرب به إلى الله، وما هي بواحدة، ففي أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يُستغرب معه وقوع القطر، وفي تسلط المقطِعين على المنقطعين ما لا ينادى وليده، وفي وادي بردى والزبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دما ما لا زاجر له، وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة، ومن المهمات إقامة وجود الدخل وتقدير الخرج بحسبها، فمن المستحيل نفقة من غير حاصل وفرع من غير أصل، وهذا أمر قد تقدم فيه حديث كثير وعرضت للمولى شواغل دونه ومشت الأحوال مشيا على ضِلع، فلما خلت النوب أعاذنا الله من عودها كان خلو بيت المال أشد ما في الشدة، وليس المملوك مطالبا بذخيرة تحصل إنما يطلب تمشية من حيث يستقر)).   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزبداني في العهد العثماني "1"

استولى العثمانيون على بلاد الشام بقيادة السلطان سليم الأول عام (1516م) الموافق (922هـ) بعد معركة مرج دابق شمال حلب، وأتبعت الزبداني وأعمالها إلى والي دمشق.