التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الزبداني في العهد الإسلامي "7"

حوالي سنة (573هـ) أنشأ العلامة قاضي القضاة فقيه الشام شرف الدين أبو سعيد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهر بن علي ابن أبي عصرون المدرسة العصرونية بدمشق وأوقف لها عدة وقفيات منها عشرة قراريط ونصف قيراط في قرية هريرة من أعمال الزبداني، ذكر ذلك عبد القادر بن محمد النعيمي في كتابه (الدارس في تاريخ المدارس) فقال:
((ومن وقف هذه المدرسة عشرة قراريط ونصف قيراط في قرية هريرة (من أعمال الزبداني)، ومنه ببعلبك مزرعتان معروفتان الآن بدير النيط وقدرهما عشرة قراريط شركة الخانقاه السميساطية، ومنه مزرعة تعرف بالجلدية نحو أربعة عشر قيراطا يزرعها أهل الجعيدية، ومنه في قرية حمارا بالمج الشمالي قيراط ونصف وربع قيراط، ومنه بالثابتية خارج باب الجابية بدمشق بستان يعرف بالسنبوسكي، وشرط أن لا يزاد في عدة فقهائها على عشرين فقيها على الشافعية وغيرهم، وأن التدريس لذريته ويستناب عن غير المتأهل، وأن يدرّس بها من تصانيف الواقف الآتي ذكره الانتصار وغيره لا من تصانيف الشريف فإن تعذر من تصانيفه فيدرس به في الخلاف، وأن يكون لكل من أرباب وظائفها كذا وكذا من القراطيس)).

وفي سنة (575هـ) الموافق (1179م) توفي في داريا ودفن فيها الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن محرز الوهراني، وأصله من المغرب ولكنه هاجر إلى الشام وسكن داريا آخر عمره حيث كان يعمل خطيبا وتوفي هناك ودفن عند تربي أبي سليمان الداراني، ومن جملة مقاماته ورسائله ومناماته (المقامة الوهرانية) التي ذكر فيها الزبداني وكثيرا من أماكنها وأحوالها على لسان أحد أشخاصه وهو من آل سرايا الذين كانوا أمراء الزبداني في تلك الفترة وهي القرن السادس الهجري. يقول الوهراني في (المقامة الوهرانية): ((وصل كتاب مولاي الشيخ الأجلّ الإمام الحافظ، الفاضل الأديب الخطيب المصقع الأمين، جمال الدين ركن الإسلام شمس الحفاظ تاج الخطباء، فخر الكتاب زين الأمناء، أطال الله بقاءه، وجعل خادمه من كل سوء وقاءه، فكان ألذ من النار في عين المقرور، وأعذب من الماء البارد في صدر المحرور. وتناوله فكان في قلبه أحلى من الدراهم، وأنفع لجراح البعد من المراهم، فلما فض ختامه وحط لثامه، أبصر فيه خطا أجمل من رياض (المَيطور)، ولفظا أرق من نسيم الروض الممطور، قد استفتحه سيدنا بكل لفظ مُذهب، وذهب فيه من التعاظم إلى كل مَذهب، وأرجو له ذلك من الله بحسن العون، فإنه يقال: إن الفأل مقدمة الكون. على أنه وجد بين جوانح الخادم من نار الشوق أجيجا، لو أن النار كلّست (الكلّاسة)، واشتملت على (الحيط الشمالي)، وعرّست في (العروس)، وأذنت بهلال المؤذنين، وأهلت لغير الله بدار ابن هلال تكون مثلها، لما اقتصرت على (المقصورة)، ولا برّدتها (البرّادة)، حتى تُصحن (الصحن)، وتُنسر (النسر)، وتجرد القبة من رصاصها، وتكبها على عراصها، وترميكم بالخطب الفادح في الخطيب، وتحربكم إياه في المحراب، فلا ينبري إلى المنبر ولو أحفظ ذلك الحافظ ثقة الدين ووقفه على مراثيه إلى يوم الدين. فأين ذات الطوق عن التغريد لهذا الشوق، وأين حمامة (النيربين) عن النياحة طول البين، وأين شحرور (منين) عن المساعدة بالحنين. لا والله ما رجل من سادات بني سرايا شرّده عن وطنه الغارات والسرايا، كان قد ربّي في السروج ونشأ بين الجداول والمروج، يتردد من حصن (اللبوة) إلى بساتين (الربوة) ويرتاد من (عين سردا) إلى (وادي بردى)، ويصطبح في (سوق آبل) ويغتبق في كروم (المزابل)، ويقيل في (عين حور) ويصطاد في (الساجور)، وفي هذه المواطن كما علمت رائعة الجَنان ورائحة الجِنان. فرماه الدهر بالحظ المنقوص ورماه إلى أرباض مدينة قوص، يتقلى في حر السعير ولا يشبع من خبيز الشعير، إدامه البصل والصبر وفراشه الأرض والحصير، فألحت عليه الهواجر شهري ناجر، فتمنى على الله ريح صبا تهب من نحو بلاده وأولاده لتبرد غليل فؤاده، فهبت عليه من نحو صحراء عيذاب بكل نقمة وعذاب، فطلعت روحه إلى التراق وقيل من راق، ومد يده إلى الماء ليبرد كبده مما يكابده، فوجده أحر من زبل الحمام ومن ماء الحمّام. فتذكر حينئذ ما خلفه من الربوع وحن إلى تسلسل الماء في (النابوع)، واشتاق إلى الجداول الساقية من (عيون عرق) الساقية، فنظم حينئذ مصابه وتزايدت أوصابه، وعلم أن سفره عن (السفيرة) و (الكبرى) هي الطامة الكبرى، وعدم الصبر والسلوان عن (دير سلوان)، فقال في نفسه: أترى الذي خلقني وبراني يعيدني إلى جنة (الزبداني)؟ أتراه يجمع شملي في (كفر عامر) بالسادات من بني عامر؟ أتراني أحرق الشيح والحوذان الذي عند عيون حور (بلودان)؟ تمنيت أن أكون كالقن والقين وأعبر تحت أبيات (بقين). ثم أنّ أنّة مهجور وتنفس عن صدر مصدور، وأنشد: ألا ليت شعري هل أراني ساعة * أجرر ذيلي في ذيول سنير. وهل أرد الماء الذي عند (دمّر) * أصيلا وحولي ناصر بن منير. ثم أقبل على تعضيد كفيه ولطم خديه وبكى حتى وقع مغشيا عليه، بأشد من شوق الخادم إلى لقائه وتطلعه إلى ما يرد من تلقائه: فالله يطوي بساط البعد عن كثب * حتى يرى الشمل منهم وهو مأهول. وإلى هذا الموضع انتهى فشر الكتاب وهذيان الشعراء، ويريد الخادم أن يطلق يده وقدمه ويسابق بها لسانه وفمه، فإنه قد لحقه من الضجر والكلال ما يلحق الجحش الصغير إذا حمل أحمال البغال)) (نقلا عن كتاب دمشق الشام في نصوص الرحالين).

قلت: وهذا النص بحاجة إلى دراسة متأنية فقد خطر ببالي الكثير من الدلالات والتساؤلات عن هذا النص ومن خلاله. (1) فأول شيء ألاحظه هو الوصف الدقيق لكثير من الأماكن في الزبداني مع شيء من الذكريات لهذه الأماكن حتى كأن الوهراني قد زار هذه الأماكن وعايشها قبل أن يكتب عنها، وأكاد أجزم بأن الوهراني قد ترحّل في الزبداني. (2) وثاني هذه الملاحظات هو ذكره لبعض القرى المحيطة بالزبداني وهي قائمة إلى الآن: عين حور، بلودان،  بقين، سوق آبل (سوق وادي بردى)، دمّر، الربوة، اللبوة، سنير (وهو الجبل الشرقي في الزبداني). كما ذكر بعض القرى المندثرة الآن والتي كانت عامرة في القرن السادس الهجري: السفيرة، الكبري، كفر عامر، دير سلوان، الساجور. (3) وثالث هذه الملاحظات هو توصيف عيون الماء الكبيرة في الزبداني والتي كانت قائمة إلى فترة قريبة: عين سردا (عين ماء في شمال سرغايا)، وادي بردى (نبع ونهر بردى جنوب الزبداني)، النابوع (نبع ماء كبير شمال الزبداني)، عين العرق (نبع ماء كبير شمال شرق الزبداني). (4) ورابع هذه الملاحظات: ذكر الوهراني (السادات من بني سرايا) وهم أمراء الزبداني في عصر كتابة المقامة الوهرانية، وأما (السادات من بني عامر) وفي (كفر عامر) فهذا يدل على سبب تسمية هذه القرية ومن هم أمراؤها في فترة كتابة النص، ونحن نجهل من بنى هذه القرية؟ ومتى كان بناؤها؟ ومن هم أمراؤها؟ مع أن أكثر من نصف العائلات الزبدانية الآن أصلها من كفر عامر. (5) وخامس هذه الملاحظات وهو التساؤل عن قائل الأبيات الشعرية التي ضمنها الوهراني في (المقامة الوهرانية)؟ فربما كان في ذلك فوائد تاريخية لنا. والله أعلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزبداني في العهد العثماني "1"

استولى العثمانيون على بلاد الشام بقيادة السلطان سليم الأول عام (1516م) الموافق (922هـ) بعد معركة مرج دابق شمال حلب، وأتبعت الزبداني وأعمالها إلى والي دمشق.