التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الزبداني في العهد العثماني "6"

وفي أحداث آذار سنة (1822م) الموافق شوال سنة (1237هـ) ذكرت الزبداني في سياق الصراع بين المشايخ من بيت عماد والأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، ذكر ذلك الأمير حيدر الشهابي في تاريخه (الغرر الحسان في أخبار أبناء الزمان) فقال:
((وفي ذلك الوقت حضروا إلى البقاع المشايخ بيت عماد ومعهم نحو ثلاث مية من دولة الشام، وقبضوا على أربع خيَّالة من أتباع الأمير بشير الشهابي، وقتلوا اثنين من بيت أبو علي حسن، يقال للواحد أبو علي والثاني محمد، ثم باتوا تلك الليلة. وعند الصباح رجعوا إلى الزبداني احتسابا من أن الأمير بشير يوجه لهم عسكر)).

وفي سنة (1831م) بدأ أهالي الزبداني وكذلك أهالي سورية يستعملون المصرية كوحدة مساحية مثل الدونم والهكتار، والغالب أنّ أصل هذا الاسم يعود إلى الفترة التي حكم فيها إبراهيم باشا بن محمد علي باشا سورية (1831ــ 1839م)، حيث حاول أن ينظم مرافق الدولة التي كانت تسود فيها الفوضى والاضطرابات في العهد العثماني، ومما قام به أنّ نظم توزيع الأراضي على الفلاحين، ويبدو أن تثبيت المشاع القديم في الزبداني يعود إلى ذلك التاريخ، فوزعت الأراضي وقسِّمت المياه ومن ذلك الوقت بدأت لفظة المصرية تستعمل للدلالة على قيمة كمية معينة من المياه تسقي مساحة معلومة تختلف من منطقة إلى أخرى حسب غزارة المياه وثمنه، ثم أصبحت تطلق على مساحة الأراضي التي تسقيها هذه المياه فأصبحت وحدة مساحية، ومثل ذلك المحاولة التي جرت في أراضي مضايا أيام الحكم العثماني حيث وُزعت المياه حسب القروش الذهبية، ولذلك نرى أنّ مساحة المصرية تختلف من منطقة إلى أخرى حسب ثمن المياه المقدرة لها، فمنها ما تبلغ مساحته (236.5م2) ومنها ما تبلغ مساحته (355م2)، والغالب في المصرية أن تعادل (12) قصبة دمشقية أي (12× 31.81= 285.720م2).  


وفي شهر نيسان من سنة (1833م) زار الشاعر الفرنسي ألفونسو لامارتين الزبداني قادما من بعلبك، ووصف كيفية وصوله إليها مساءً ودورانه في أزقتها مفتشا عن فندق يأوي إليه هو وحاشيته الكثيرة، إلى أن أرشدوه إلى بيت الشيخ فقصده ونزل في ضيافته، ولم يذكر لامارتين في رحلته اسم ذلك الشيخ، وقد أفاض في وصف الحفاوة التي قابله بها ذلك الشيخ، ثم وصف خروجه من الزبداني إلى دمشق،  فقال لامارتين في كتابه (رحلة إلى الشرق): ((في 1 نيسان 1833م. في الساعة السادسة صباحاً امتطينا الخيل وشرعنا في رحلتنا (من بعلبك إلى دمشق) دون توقف فيما بين جبال جرداء شاهقة المنحدر ولا يفصلها عن بعضها سوى شعاب ضيقة حيث تجري سيول من ذوبان الثلج، لا شجر ولا نميص. أشكال تلك الجبال المفتتة غريبة تمثل آثاراً بشرية، منها أثر عال ضخم شاقولي المرتقى من جميع الجهات مثل هرم. قد يبلغ محيطه فرسخاً ولا يستطيع أحد أن يكتشف كيف تمكن الناس من تسلقه. فما من أثر ظاهر لدرب أو درجات مع أن أيادي بشرية حفرت مغائر من جميع القياسات في جميع منحدراته. تركنا هذا الجبل إلى شمالنا وما لبث أن صار خلفنا وهبطنا بسرعة من خلال منخفضات عسير سلوكها إلى واد أعرض وأكثر انفتاحاً يجري فيه نهر. وبدأت تظهر لأعيننا على جانبيه من خلال شقوق الصخور التي تحف بالنهر أشجار الصفصاف والحور وأشجار مختلفة كثيرة أخرى أغصانها متشابكة بصورة غريبة، أوراقها سوداء. سرنا وتلك الضفاف ساعات مفتونين ونحن ننحدر دون أن نلاحظ ذلك. النهر يرافقنا وهو يخر ويزبد تحت أرجل خيلنا. الجبال العالية التي تشكل الشعب حيث يسيل النهر تبتعد وتتكور فتتحول إلى تلال عريضة مشجرة تلقي عليها الشمس الغاربة أشعتها، إنها أول منفذ إلى مابين النهرين: صرنا نرى أودية فسيحة تنفتح شيئاً فشيئاً على سهل الصحراء الكبير ما بين دمشق وبغداد. الوادي حيث كنا أخذ يتسع والماء يجري فيه ببطء. وبدأنا نلمح على يمين النهر وشماله بقايا زرع ونسمع أصوات قطعان بعيدة. بساتين من أشجار المشمش الكبيرة وأشجار الجوز تحف الطريق. وما عتمنا أن فوجئنا برؤية سياجات، كما في أوروبا، تفصل بين البساتين والحدائق المزروعة بقولاً وأشجاراً مثمرة مزهرة. حواجز أو أبواب خشبية تنفتح هنا وهناك على تلك الحدائق الجميلة. الطريق عريضة سوية معتنى بها جيداً كالطرق التي حول إحدى مدن فرنسا.‏ الزبداني: ليس فينا أحد كان يعلم بوجود هذه الواحة الخلابة في وسط جبال لبنان الشرقية الوعرة. كنا نقترب طبعاً من مدينة أو قرية نجهل اسمها. وصادفنا فارساً عربيا قال إننا على مقربة من قرية كبيرة تدعى الزبداني. وبدأنا نرى الدخان المرتفع منها فوق أعالي الأشجار الكبيرة النابتة في الوادي، حتى دخلنا شوارع القرية. إنها عريضة ومستقيمة ذات أرصفة من حجارة.


والبيوت التي على جانبيها كبيرة وحولها باحات مليئة بالحيوانات، وبساتين مروية ومزروعة تماماً. النساء والأولاد يهرعون إلى الأبواب ليرونا ونحن نمر، ويستقبلوننا بوجوه باشة باسمة. سألنا إذا كان يوجد فندق نستطيع أن ننزل فيه لنبيت ليلة؟ فأجابونا بالنفي لأن الزبداني ليست على أي طريق ولا تمر بها أي قافلة. وبعد أن سرنا طويلاً في شوارع القرية وصلنا إلى ساحة كبيرة عند حافة النهر فوجدنا هناك بيتاً أكبر من البيوت الأخرى وفي مقدمته مصطبة محاطة بالأشجار فعلمنا أنه منزل الشيخ. فتقدمت مع ترجماني وطلبت منزلاً للمبيت فهرع الخدم إلى إخبار الشيخ فأسرع هو نفسه إلينا، إنه شيخ جليل أبيض اللحية جميل المظهر، وقدّم لي بيته كله باهتمام وترحيب واستقبال للضيافة ما رأيت مثله من قبل في أي مكان آخر، وفي الحال استلم الخدم وأهم رجال القرية خيولنا وقادوها إلى حظيرة واسعة فأنزلوا الأحمال وجاؤوا بأكداس من شعير وتبن. وأخلى الشيخ نساءه من غرفهن بعد أن أدخلنا إلى ديوانه (المضيف) حيث قدمت إلينا القهوة والشراب، ثم ترك لنا جميع غرف المنزل. وسألني إذا كنت أريد أن يهيئ لنا خدامه الطعام. فرجوت منه أن يسمح لطاهيّ أن يعفيهم من هذا العناء وأن يأتيني فقط بعجل وبعض الخراف لنجدد مؤونتنا التي نفدت في بعلبك. وبعد بضع دقائق جيء بالعجل والخراف بعد أن ذبحها جزار القرية. وفيما كان رجالنا يهيؤون لنا العشاء عرّفنا الشيخ بوجهاء سكان البلد وبأهله وأصدقائه. وطلب مني أن آذن لنسائه بأن يدخلن على السيدة لامارتين زوجتي وقال: (إنهن يرغبن جداً في رؤية امرأة أوروبية ومشاهدة ثيابها وحليّها) وبالفعل مرت نساء الشيخ وهن محجبات بالديوان حيث كنا ودخلن غرفة زوجتي. كن ثلاثة: الواحدة متقدمة في السن كأنها أم الاثنتين الأخريين، والصغيرتان كانتا رائعتي الجمال وبدتا كثيرتي الاحترام والاعتبار والحب نحو كبيرتهن في السن. وقدمت زوجتي لهن بعض الهدايا وهن من جهتهن فعلن مثل ذلك. خلال هذا اللقاء جاء بنا شيخ الزبداني الجليل إلى مصطبة كان بناها قرب منزله عند حافة النهر تحملها ركائز مغروزة في مجرى النهر نفسه. وكانت تلك المصطبة مغطاة بالبسط وعلى جوانبها ديوان، تظللها هي والنهر شجرة ضخمة كالتي كنت رأيتها عند حافة الطريق. وهنا في ظل الشجرة التي يأوي إليها ويغرد على أغصانها ألف طائر، يقضي الشيخ أوقات فراغه كما يفعل جميع الأتراك في الإصغاء إلى خرير الماء والتمتع بمرأى مياه النهر الباردة المزبدة الجارية تحت ناظريه. جسر من الألواح يصل البيت بهذه المصطبة المعلقة. إن هذا المكان هو أحد أجمل الأمكنة التي شاهدتها في رحلتي. البصر ينزلق على آخر تلال جبال لبنان الشرقية المكورة التي تشرف على ِأهرام صخر أسود أو قمم من الثلج وينحدر مع النهر وأمواجه المزبدة فيما بين قمم أشجار غابات مختلفة غير متساوية ترسم مجراه حتى تضيع وإياه في سهول مابين النهرين المنحدرين التي تمتد مثل خليج من خضرة في منعرجات الجبال. وعندما أصبح العشاء جاهزاً رجوت من الشيخ أن يتكرم بمشاركتنا فيه، فقبل راضياً وبدا عليه السرور لرؤية طريقة الأوروبيين في الأكل. ما كان رأى قبل اليوم أي أداة من أدوات موائدنا وما شرب خمراً قط ونحن ما حاولنا حمله على ذلك. إن ضمير المسلم محترم كضميرنا. حمل تركي على ارتكاب خطيئة مخالفة للقانون الذي يفرضه عليه دينه كتجربة مسيحي وحمله على مثل ذلك، إنه جرم وشيء غير معقول، هذا ما بدا لي دائماً. تكلمنا كثيراً على أوروبا على عاداتنا التي يبدو أنه كان كثير الإعجاب بها، وحدثنا عن طريقة إدارته قريته. لقد حكمت أسرته مدة قرون هذه الناحية الممتازة من جبال لبنان الشرقية، وإن الفضل في التحسينات الجارية في الأملاك والزراعة والشرطة والنظافة التي أعجبنا بها ونحن نجتاز أرض الزبداني يعود لأسرة الشيخ الممتازة. الأمر كذلك في الشرق كله. كل شيء شاذ وخارج على القياس. الخير مثل الشر يستمر هنا بلا نهاية. لقد استطعنا بالاعتماد على هذه القرية الفاتنة أن نحكم على ما يمكن أن تكون هذه الأقاليم التي أعيدت إلى خصبها الطبيعي. أعجب الشيخ كثيراً بسلاحي ولاسيما بمسدسي. ولم يستطع أن يخفي جيداً السرور الذي يسببه له امتلاك هذا السلاح. ولكنني لم أكن قادراً على تقديمه له: فهما مسدساي للمعركة وكنت أريد الاحتفاظ بهما حتى عودتي إلى أوروبا. فقدمت له هدية ساعة ذهبية إلى زوجته، فأخذ الهدية مع كل الممانعة المهذبة التي تصدر عنا في أوروبا لقبول مثلها. يظهر أنه راض تماماً مع أني ما شككت قط في تفضيله المسدسين. وجيء لنا بكمية من المخدات والبسط من أجل النوم، ففردنا في هذا الديوان الذي كان هو ينام فيه، ونمنا على صوت خرير النهر الذي كان يجري تحت أسرتنا. وفي اليوم التالي عند طلوع النهار اجتزنا النصف الثاني من قرية الزبداني وهو أجمل مما رأيناه في اليوم السابق. وأمر الشيخ بعض رجال عشيرته بأن يرافقونا حتى دمشق. عندها سمحنا لفرسان بعلبك بالعودة لأنهم قد لا يكونون في مأمن في أرض دمشق. فسرنا ساعة في طريق يحدها سياج حي واسع ومعتنى به كثيراً، كما في فرنسا. الطريق تظلله قبة من أشجار المشمش والأجاص. وتمتد على جانبيه يميناً وشمالاً حدائق لا نهاية لها ثم حقول مزروعة فيها أناس كثيرون وحيوانات. جميع هذه الحدائق ترويها سواق تنحدر من الجبال التي إلى الشمال، المكسوة قممها بالثلج. والسهل فسيح ولا شيء يحده في نظرنا سوى غابات الأشجار المزهرة، وبعد ثلاث ساعات من السير كما لو كان وسط أجمل المناظر في إنكلترا أو لومبارديا دون أن يذكرنا شيء بالصحراء والبربرية وصلنا إلى أرض قاحلة وعرة لا يُرى فيها كلياً تقريباً نبت ولا زرع. التلال الصخرية التي لا يكاد الطحلب الأصفر يغشيها تمتد أمامنا تحدها الجبال الجرداء الرمادية اللون. نزلنا في خيامنا عند سفح تلك الجبال بعيداً عن كل مكان مأهول. ونمنا ليلتنا هناك على ضفة سيل ضيق وعميق يسمع له دوي كدوي رعد لا ينتهي في شعب من الصخور يجري فيه ماء عكر ورضاب ثلج. وامتطينا الخيول في الساعة السادسة، إنه اليوم الأخير، فأكملنا في ضواحي دمشق لبس ثيابنا التركية حتى لا نعرف بأننا من الفرنجة، وارتدت زوجتي ثوباً كثوب النساء العربيات وإزاراً من نسيج أبيض لفها من رأسها حتى قدميها. وحسَّن مرافقونا من العرب هندامهم وأشاروا إلينا بأصابعهم إلى الجبال التي بقي علينا أن نجتازها وهم يصرخون: الشام! الشام! هذا اسم دمشق)).

وأثناء زيارة لامارتين للزبداني زار بلودان فذكر هذه الزيارة ووصفها بدقة أبو محمود عبد الرحمن بن محمود ابن صدقة البلوداني في (يومياته) فقال: ((حضر في صباح هذا اليوم الخامس من مُحرَّم سنة 1249هـ إلى بلودان الشاعر الفرنسي لامارتين ومعه فرنساوية، وكان في استقباله وجهاء القرية من بيت صدقة وحمو وبيت الخطيب وبيت يونس وبيت الطرابلسي، وكان بصحبته من الزبداني الخوري عبد الله وميخائيل مشاقة، وزار كنيسة دير مار جرجس، وصعَّدوه إلى الجبل على البغال لزيارة دير يونان القديم فأعجبته المناظر الخلابة وكتب لهم شعرا باللغة الفرنساوية احتفظ به الخوري عبد الله وميخائيل ابن مشاقة، وقالوا نحن أتينا به من الزبداني وهو ضيف عند شيخها محمود ابن التل، وقد عاد إلى الزبداني مع مرافقيه قبل المغرب، ولم نفهم من الحديث الذي دار بينهم وبين الخوري وابن مشاقة أي شيء لأنهم كانوا يتكلمون بالفرنساوية ولا يُفهمونا أي شيء من الحديث)).

وفي سنة (1834م) زار الزبداني قادما من بعلبك ومتجها إلى دمشق الرسام والرحالة الإنكليزي وليم بارتليت (1809 ـ 1854) والذي كان للشرق النصيب الأكبر في أعماله التي تربو على (1500) عمل، وقد أمضى ليلته في الزبداني واستقبل بحفاوة بالغة. وتابع طريقه إلى دمشق التي بدت له كبحر كبير من الخضرة تنبعث منها المآذن البيضاء، ولاحظ جمال المدينة وبردى الذي يسير في دمشق وبساتينها كشريان من فضة على حد تعبيره. فانطباعاته كانت إيجابية جدا وتجلت في قلم وأسلوب شعري للغاية فقال: دمشق يشار إليها على خريطة العالم بسبابة العناية الإلهية كمعقل أو كمدينة كبيرة.‏

وفي سنة (1837م) حدث زلزال فضرب الزبداني وما حولها من القرى، وقد ذكر ذلك أبو محمود عبد الرحمن بن محمود ابن صدقة البلوداني في (يومياته) فقال: ((وقع بعد عصر أمس الجمعة عاشر شهر شوال سنة 1252هـ الموافق للسادس من شهر كانون الثاني سنة 1837م زلزلة عظيمة ضربت جميع القرى الزبداني وحولها، وتهدمت بيوت كثيرة جدا ومات عدد من الأنفس، وقد تصدعت حيطان الجامع إلى جنب العين ونزل قسم من سقف كنيسة دير مار جرجس، وقد تفجرت العيون بشكل كبير من الزلزلة وزاد مايها أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه بحيث كثرت السيول وانقطع الطريق المودي إلى الزبداني وكافة طرقات الحارات القديمة بالقرية، وانهدم بيت أخي صطوف ونزل كل المخادع على الأرض ماعدا الزريبة التي فيها الدواب، وكان الجميع خارج البيت ماعدا ابن أخي بشير فقد توفي في الهدم ونقلناه اليوم إلى تربة الزبداني على الدواب، رحمه الله تعالى وألهم أمه وأباه الصبر والسلوان على هذه المصيبة، ومشيت المي من عين المعلقة وعين حزير وعين البيضا وعين النجاصة وعين الدلة وعين النسور وعين حل جرابك مثل الأنهر الكبيرة وحفرت الأرض حتى صارت مثل الخنادق، كما تضررت كل الضُيَع والقرى المجاورة وفزعت الرجال والنساء لتحويل المياه عن البيوت وسحب الأنفس من تحت الهدم)).

وفي سنة (1838م) قام إبراهيم باشا بتسجيل أسماء الشباب من الزبداني وبلودان لتجنيدهم في جيشه، وقد ذكر هذه الحادثة أبو محمود عبد الرحمن بن محمود ابن صدقة البلوداني في (يومياته) فقال: ((في رابع رجب سنة 1253هـ وصل إلى الزبداني موفدا من قبل إبراهيم باشا الذي احتل بلاد الشام يُدعى القايد سليمان باشا ومعه عسكر من الأرناؤوط يحملون البنادق والنبابيت الخشبية الغليظة لتجنيد الشباب من الزبداني ومن القرى المجاورة، وقد سجلوا من بلودان أسماء 54 شابا كلهم من المسلمين، منهم أخي محمد خير وأخي قاسم وابن أخي صطوف المدعو محمد علي، ولم يسجلوا أسماء من النصارى لأنّ الكاتب المرافق لسليمان باشا نصراني، وقد سأله ابن يونس عن عدم تسجيل أسماء النصارى فأجاب أنّ الخوري عبد الله وميخائيل مشاقة أخذا إعفاء بوساطة القنصل الفرنساوي والقنصل الإنكليزي لكافة النصارى لأنّ عددهم في بلودان أقل من المسلمين، وقد سجلوا عدد الأنفس ببلودان فكان عدد أنفس المسلمين 736 وعدد أنفس النصارى 619 ، وقد ادعى الخوري بأنهم أقليات من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك وغير ذلك والله أعلم بالنوايا)).

وفي أحداث سنة (1839م) الموافق (1256هـ) ذكر صاحب خطط الشام: أن إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا خرج من دمشق بعد أن فرّق ذخائره ومتاعه على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي خارجا من باب الله ونزل سهل القدم، ومنها قصد إلى دمشق عن طريق البر. وقبل رحيله عن دمشق أرسل خالد باشا التركي من الساحل أحمد آغا اليوسف في شرذمة من الجيش، فخرج إليه إبراهيم باشا بجند قليل وهزمه شر هزيمة، فرجع إبراهيم باشا إلى دمشق بالغنائم والذخيرة الوافرة، وأما أحمد آغا اليوسف فنزل بعسكره بعيدا عن دمشق في إحدى قرى الزبداني ينتظر إخلاء إبراهيم باشا المدينة. ثم خرج إبراهيم باشا صادعا بالأمر الذي جاءه من والده بالجلاء عن الشام، فخرج أهل دمشق لوداعه، وخطبهم وحرضهم على الإخلاد إلى الطاعة والسكينة ريثما تعود الحكومة العثمانية. (خطط الشام الجزء الثالث).

وكان آخر هؤلاء الحرافشة أولاد جهجاه الثلاثة وهم: الأمير مصطفى والأمير خنجر والأمير محمد الحرفوش، وهذين الأخيرين تناوبا الإقامة بين الزبداني وسرغايا، وهذا الأخير هو الذي قضت عليه جنود الدولة العثمانية سنة (1850م) لما طغى وبغى، ولحقته الدولة فلجأ إلى كهوف معلولا. ذكر ذلك محمد كرد علي في كتابه (خطط الشام) فقال: ((وفي سنة (1850م) الموافق (1267هـ) عصى الأمير محمد الحرفوش أمير بعلبك وجمع عسكرا من بلاد بعلبك ووادي العجم، فأرسلت عليه الدولة العثمانية قوة بقيادة مصطفى باشا، فانهزم أمامه إلى قرية معلولا في جبال القلمون وتحصن بها مع إخوته وأولاد عمه، فحصرهم الجنود إلى أن دخلوا عليهم بدلالة أهل القرية، فأخذ الأمير محمد وأسر، وطوق القائد العثماني بعلبك بثلاثة آلاف جندي فاستسلم أمراؤها، فقبض عليهم وأرسلوا إلى دمشق فنفوا إلى كريت، وقضى بذلك على عامل من عوامل حكومة الإقطاعات)) (خطط الشام الجزء الثالث).

قبل سنة (1857م) لم يكن الطريق من الزبداني إلى دمشق يمر بالربوة كما هو الآن لأن مضيق الربوة كان مزدحما بالأنهار بل كان المسافرون القادمون يصعدون من دمر نحو جبل قاسيون ويبلغون قبة السيار ثم يهبطون من العقبة التي كانت تدعى عقبة دمر نحو حي المهاجرين الحالي، وبقي هذا الأمر طوال القرون الخالية حتى عام 1857م الموافق 1274هـ حيث مدت شركة مركبات الديليجانس الفرنسية الطريق المعبد من بيروت إلى دمشق فجعلتها تمر من مضيق الربوة (وهو مضيق بين جبلين)، وذلك بجانب خط السكة الحديدية الذي أنشئ عام 1313هـ الموافق 1895م. (الريف السوري). قلت: والطريق السابق إلى دمشق عبر عقبة دمر فحي المهاجرين كان يعطي لمدينة دمشق هيبة وجمال وشاعرية وربما قدسية حيث يطل القادم على دمشق فيراها كما يرى الناس الأماكن من الطائرة، وقد وجدنا ذلك في كلام الشاعر الفرنسي لامارتين حين زار دمشق سنة (1833م) حيث قال: ((وامتطينا الخيول في الساعة السادسة، إنه اليوم الأخير، فأكملنا في ضواحي دمشق لبس ثيابنا التركية حتى لا نعرف بأننا من الفرنجة، وارتدت زوجتي ثوباً كثوب النساء العربيات وإزاراً من نسيج أبيض لفها من رأسها حتى قدميها. وحسَّن مرافقونا من العرب هندامهم وأشاروا إلينا بأصابعهم إلى الجبال التي بقي علينا أن نجتازها وهم يصرخون: الشام! الشام! هذا اسم دمشق))، وقد أعيد فتح هذا الطريق في الثمانينات من القرن العشرين وهو موجود الآن. (الريف السوري).

حوالي سنة (1860م) تم إنشاء وبناء قرية جديدة يبوس وهي من قضاء الزبداني وتقع جنوب غرب الزبداني بالقرب من الحدود السورية اللبنانية، ذكر ذلك المؤرخ أحمد وصفي زكريا في كتابه (الريف السوري) فقال: ((حدثنا ملاك هذه القرية أن أرضها الحالية كانت تتبع قرية قديمة خربة اسمها عين قنية الكبرى إلى الجنوب الغربي على بعد (2كم) إلا قليلا، ولا تزال أطلال هذه القرية وأحجارها ماثلة للعيان وماء عينها جارية تنهل منها الماشية، ويظهر أن أرض هذه الخربة ظلت محلولة (الأرض المحلولة هي الأرض التي يُفقد صاحبها بحكم النزوح البات أو الوفاة بلا عقب فتعود لبيت المال) بعد خراب القرية لأسباب مجهولة. فجاء محمد باشا اليوسف الزيركي في أواسط القرن التاسع عشر ودفع ما عليها من الضرائب المتراكمة وقدرها ثمانمائة ليرة وسجّلها باسمه. ثم لما مدت شركة حافلات الديليجانس الطريق المعبدة بين بيروت ودمشق سمة 1860م اشترت من الباشا المذكور قطعة أرض على الطريق وبنت خانا لمركباتها وبغلها. فجاء الباشا وبنى حول الخان الضييعة الحالية ودعاها جديدة، ونسبها الناس إلى يبوس تمييزا لها عن جديدات أخرى. وبين هذه القرية السورية وجارتها عيتا الفخار اللبنانية اختلاف على أراضي حراجية من أوقاف الباشا المذكور مساحتها (3700) دونما تقع على عدوتي وادي الحرير الذي يقع شمال غربي قرية الجديدة. وعلى رغم الاتفاق بين حكومتي سورية ولبنان على ترك الأراضي المختلف عليها بدون استثمار أحد الفريقين المختلفين، فإن الحكومة اللبنانية عمدت في سنة 1954م إلى إحاطة هذه القطعة بالأسلاك الشائكة بحجة أنها كانت حددتها سنة 1927م ضمن الحدود التي كان فرضها الجنرال غورو الفرنسي سنة 1920م وأوصلها حتى مكان خط تقسيم المياه في شمالي قرية الجديدة ، وبنت حكومة لبنان وسط وادي الحرير وقرب مصنع الماء الذي هو من آثار الباشا المذكور مخفرا للأمن العام في أرض الأوقاف المذكورة. وقد اعترض الملاكون السوريون على هذا التعدي وتألفت لجان للتحديد من فريقي سورية ولبنان واجتمعت مرارا وافترقت دون حل الخلاف من جراء مماطلة الفريق اللبناني)) (المصدر: الريف السوري، 1957م).

وفي حوادث سنة (1860م) يقول الأستاذ خالد دهمان في كتابه (الزبداني دراسة إقليمية): ((إنّ أول ما يجدر ذكره هنا أنه لا يوجد بين مختلف طوائف السكان أيّ نزاع طائفي ديني، وجميع أفراد هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم لم يذكر أن قام بينهم نزاع مذهبي من أجل العقيدة، فهم يعيشون في تعاون تام، وقد تجلى هذا التعاون بصورة واضحة منذ حوادث عام 1860م، فقد قدم إلى الزبداني أثناء هذه الحوادث دروز من حلوا ويلطا من لبنان بغية الإيقاع والفتك بالمسيحيين في الزبداني كما جرى في مناطق أخرى في لبنان، ولكن المسلمين في ذلك الوقت حموا الطائفة المسيحية بأجمعها، ولم يمكنوا الدروز من أن يوقعوا بأحد من المسيحيين، وكان من نتيجة ذلك أن أحرق الدروز كنيسة الزبداني دون أن تقع أي خسائر بالأرواح، بينما في بلودان وقعت بعض المذابح، وظل هذا التعاون ساريا حتى الآن)). قلت: يشكل المسيحيون في الزبداني نسبة (10%) من السكان، بينما يشكل المسيحيون في بلودان (50%)، ولذلك استطاع أهالي الزبداني حماية إخوانهم المسيحيين، ولا أظن أنّ أحدا من المسلمين يُقصّر عن حماية إخوانه المسيحيين إذا استطاع ذلك في هذا الوطن وفي كل الوطن الإسلامي. وحوادث الفتنة الطائفية هذه امتدت مع عام (1840م) إلى عام (1860م) بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان وامتدت إلى الداخل السوري كدمشق وغيرها، والسبب فيها هو أن المسيحيين كانوا مرحبين بقدوم إبراهيم باشا وحكمه لسورية بينما كان الدروز ضد إبراهيم باشا والحكم المصري وقد أوقع الدروز مئات القتلى في الجيش المصري، فلما استعادة الدولة العثمانية البلاد الشامية غضت الطرف عن الهجمات الدرزية على المسيحيين فحصل ما حصل من الحوادث والقتل، وبعض المؤرخين كمحمد كرد علي في كتابه خطط الشام يتهمون الدولة العثمانية بأنها ساعدت على ذلك من خلال نزع سلاح المسيحيين وعدم معاقبة الدروز بشك جدي لمنعهم من الاستمرار في اعتدائهم على المسيحيين.

ولما ألغيت حاكمية المقاطعات في عهد السلطان عبد الحميد سنة (1860م)، وقُسِّمت سوريا إلى أقضية، ألحقت الزبداني وضواحيها بقضاء وادي العجم ومركزه قطنا.

وفي سنة (1862م) بني مسجد العارة، وأساسه أرض لآل غانم وهبوها للمسجد، وكان المسجد من تراب وحجر وخشب، والسقف من تراب، وكانت مئذنته من خشب، وفي سنة (1936م) فتح الطريق من العارة إلى الجسر فذهب قسم كبير من مسجد العارة بالطريق، وذهب منبره إلى جامع الجسر هبة، ثم أعيد بناء مسجد العامرة بعد توسيعه سنة (1938م) بالحجارة والطين وافتتح من جديد في نفس العام. (من ذاكرة الزبداني).

وفي سنة (1869م) فتح القنصل البريطاني (ود) باب الاصطياف في الزبداني وبلودان حين جعل من بلودان مقرا لإقامته الصيفية، وقد تحدث عن الاصطياف في بلودان الرحّالان المؤرخان  (إيزاير وشوفه) مؤلفا (دليل الشرق) المطبوع سنة 1882م، حيث وصفا بلودان بكلمة(Gracieux)  ومعناها القرية اللطيفة الظريفة وأنها محاطة بالكروم والبساتين وفيها المقر الصيفي لقنصل انجلترا والبقعة البروتستانتية ولكثير من تجار دمشق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزبداني في العهد العثماني "1"

استولى العثمانيون على بلاد الشام بقيادة السلطان سليم الأول عام (1516م) الموافق (922هـ) بعد معركة مرج دابق شمال حلب، وأتبعت الزبداني وأعمالها إلى والي دمشق.