وفي أحداث سنة (544هـ) الموافق (1150م) ذكر أبو شامة المقدسي في كتابه (الروضتين في أخبار الدولتين) أن نور الدين زنكي نزل بعسكره في مرج يبوس من أعمال الزبداني وبيعفور من أعمال وادي بردى وهو في طريقه لمحاربة الفرنج الذين كانوا يعيثون فسادا في الأعمال الحورانية فقال:
((فصل: قال الرئيس أبو يعلى: اتصل الخبر بنور الدين بإفساد الفرنج في الأعمال الحَوْرَانيّة بالنّهب والسبي، فعزم على التأهب لقصدهم، وكتب إلى مَنْ دمشق يعُلمهم بما عزم عليه من الجهاد ويستدعي المعونة على ذلك بألف فارس تصل إليه مع مقدم يعول عليه. وقد كانوا عاهدوا الفرنج على أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين، فاحتج عليه وغولط. فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس، وبعض العسكرية بيعفور. فلما قرب من دمشق وعرف من بها خبره ولم يعلموا أين قصده، وقد كانوا راسلوا الإفرنج بخبره، قرروا معهم الإنجاد عليه، وكانوا قد نهضوا إلى ناحية عسقلان لعمارة غزة، ووصلت أوائلهم إلى بانياس. وعرف نور الدين خبرهم فلم يحفل بهم، وقال: لا أنحرف عن جهادهم، وهو مع ذلك كافّ أيدي أصحابه عن العيث والإفساد في الضايع، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف عنهم، والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها، وسائر البلاد وأطرافها وكان الغيث قد انحبس عن حَوْرَان والمرج والغوطة، ونزح أكثر أهل حوران عنها للْمَحْل واشتداد الأمر. فلما وصل نور الدين إلى بعلبك اتفق نزول المطر يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة، وأقام إلى مثله، فروّى الآكام والوهاد، وجرت الأودية، وزادت الأنهار، وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها، وطرد ما صوّح من النبات والزرع غضَّا طريا، وجد الناس بالدعاء لنور الدين وقالوا هذا ببركته وحُسْن مَعْدلته وسيرته. ثم رحل من منزله بالأعوج، ونزل بجسر الخشب المعروف بمنازل العساكر في السادس والعشرين من ذي الحجة، وأرسل إلى مجير الدين والرئيس، وقال: إنني ما قصدت بنزول هذا المنزل طلبا لمحاربتكم ولا منازلتكم، وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حَوْران. والعربان بأن الفلاحين أخذت أموالهم وسُبيت نساؤهم وأطفالهم بيد الفرنج، وعدم الناصر لهم ولا يسعني، مع ما أعطاني الله، وله الحمد، من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين، وكثرة المال والرجال، أن أقعد عنهم ولا أنتصر لهم، مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذبّ عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي، وبذلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلما لهم وتعدّيا عليهم. وهذا ما لا يرضي الله تعالى ولا أحدا من المسلمين؛ ولابد من المعونة بألف فارس مُزاحِي العلّة، تُجرّدُ مع من يوثق بشجاعته من المقدّمين، لتخليص ثغر عسقلان وغزّة. قال: فكان الجواب عن هذه الرسالة: ليس بيننا وبينك إلا السيف، وسُيوافينا من الإفرنج ما يُعينُنا على دفعك إن قصدتنا ونزلت إلينا. فلما عاد الرسول بهذا الجواب ووقف عليه، أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى البلد ومحاربته في غد ذلك اليوم. فأرسل الله من الأمطار وتدارُكها ودوامها ما منعه من ذلك)).
وفي أحداث سنة (546هـ) الموافق (1152م) ذكر ابن القلانسي أن نور الدين زنكي كان يحاصر دمشق التي كان يحكمها مجير الدين أرتق السلجوقي وكان يناور الإفرنج في نواحي دمشق للإيقاع بهم فانحاز إلى نواحي الزبداني لاستجرارهم إليها ولكن ذلك لم يحصل، فقال أبو يعلى ابن القلانسي في (تاريخ دمشق): ((ثم رحل في يوم الخميس لعشر بقين من صفر إلى ناحية داريا لتواصل الإرجاف بقرب عسكر الإفرنج من البلد للإنجاد، ليكون قريبا من معابرهم لقوة العزائم على لقائهم والاستعداد لحربهم، لأن العسكر النوري صار في عدد لا يُحصى كثرة وقوة، وفي كل يوم زيادة بما يتواصل من الجهات وطوائف التركمان، ونور الدين مع هذه الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع إلى قتال أحد من المسلمين من رجال البلد وعوامه تحرجا من إراقة الدم فيما لا يجدي نفعا، إذ كانوا يحملهم الغرور والجهل على التسرع والظهور ولا يعودون إلا خاسرين مفلولين. وأقام نور الدين على هذه الصورة ثم رحل إلى ناحية الأعوج لقرب عسكر الإفرنج وعزمهم على قصده، واقتضى رأيه الرحيل إلى ناحية الزبداني استجرارا لهم، وأفرق من عسكره فريقا يناهز أربعة آلاف فارس مع جماعة من المقدمين ليكونوا في أعمال حوران مع العرب، وخروج العسكر الدمشقي إليهم واجتماعهم بهم ثم يقاطع عليهم)).
حوالي سنة (550هـ) الموافق (1156م) كان في الزبداني مدرسة للعلوم الشرعية، وهي أقدم المدارس التي علمنا بوجودها، وكان فيها مدرسون يأتون من دمشق إلى الزبداني للتدريس والتعليم، وقد علمنا بذلك من ترجمة أبو الفتح البلطي عثمان بن عيسى بن هيجون حيث ورد في ترجمته أنه كان مقيما في دمشق وكان يتردد إلى الزبداني للتعليم فيها وذلك قبل ذهابه إلى مصر، ذكر ذلك الأصفهاني في كتابه (خِرِّيدة العصر وجريدة القصر) كما ذكر ذلك الصفدي في كتابه (الوافي في الوفيات).
وفي سنة (560هـ) الموافق (1165م) توفي الشريف الإدريسي محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس، وكان قد وضع كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وذكر فيه عين الفيجة وقرية آبل (سوق وادي بردى) فقال: ((ودمشق أنزه بلاد الله من خارج. ومياه الغوطة الجارية بها تخرج من عين الفيجة، وهذه العين في أعلى جبل وينصب ماؤها من أعلى هذا الجبل كالنهر العظيم له صوت هائل ودوي عظيم يسمع على بعد، ويرى نزول الماء من أعلى الجبل على قرية آبل حتى ينتهي إلى المدينة، فتتفرع منه الأنهار المعروفة بها، منها: نهر يزيد ونهر ثورة ونهر بردى ونهر قناة المزة ونهر بانياس ونهر سقط ونهر يشكور ونهر عادية، وهذا النهر ليس بمشروب منه لأن عليه مصبات أوساخ المدينة وأوزار غسالاتها وقنوات صغار، ويشق لهذا النهر وسط المدينة وعليه قنطرة يجتاز عليها الناس، وكذلك أيضا سائر الأودية التي ذكرناها تخرج منها سواق تخترق المدينة وتجري إلى دورها وحماماتها وبساتينها وأسواقها)).
وقبل سنة (565هـ) الموافق (1171م) توالى على حكم الزبداني عدد من الأمراء من أبنائها، ومنهم الأمير حجي بن عبيد الله، وقد ذكر ذلك العماد الأصفهاني في كتابه (خِرِّيدة القصر وجريدة العصر) فذكر أنّ الشاعر علي بن ثروان بن الحسن الكندي (وفاته بعد سنة 565هـ) الملقب شمس الدين أبو الحسن، قصد الأمير حجي بن عبيد الله ولم يجده فكتب على بابه:
حضر الكندي مغناكم فلم * يركم من بعد كد وتعب
لو رآكم لتجلى همه * وانثنى عنكم بحسن المنقلب
قال الأصفهاني في ترجمة الشاعر الكندي: ((شمس الدين أبو الحسن علي بن ثروان بن الحسن الكندي، كان أديباً فاضلاً، أريباً كاملاً، قد أتقن الأدب، وقرأ اللغة على ابن الجواليقي وغيره من صدور العلم وبحوره. وقد ذكرت تاج الدين الكندي ابن عمه من أهل بغداد، وهذا، لإقامته بدمشق أوردته مع أهلها، والأصل من الخابور. رأيته بدمشق مشهودا لفضله بالوفور، مشهورا بالمعرفة بين الجمهور، موثوقا بقوله، مغبوقا مصبوحا من نور الدين بطوله. وتوفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. وله شعر كثير، وفضل ونظم ونثير، ولم يقع إليّ ما أشد يد الانتقاد عليه، وأصرف عنان الانتقاء إليه. ومن جملة ذلك أنه قصد بعض رؤساء الزبداني وهو الأمير حجي بن عبيد الله فلم يجده، فكتب على بابه هذين البيتين، (وذكر البيتين السابقين) ثم قال: أنشدنيهما التاج البلطي بمصر)).
ثم توالى على حكم الزبداني عدد من أمراء بني سرايا، ولم نقف لهم على تاريخ محدد في هذه الفترة وإنما علمنا بوجودهم من خلال شعر الهجاء الذي قاله فيهم التاج البلطي أبو الفتح عثمان بن عيسى بن هيجون، حيث ذكر الأصفهاني في كتابه (خِرِّيدة القصر وجريدة العصر) أن التاج البلطي أنشده بمصر سنة (572هـ) ما قاله في هجاء أمراء الزبداني من بني سرايا فقال:
من أحبَّ الهوان لا يتعدى الدهر * سكناه بين آل سرايا
ما أعدوا لنازل بهم شيئا * سوى الجبة بالخنا والرزايا
قال الأصفهاني في ترجمة التاج البلطي صاحب الأبيات السابقة: ((ذكر أن أصله من بلدة يقال لها بلط، ومولده في بني مايدة بالموصل لثلاث بقين من شهر رمضان سنة أربع وعشرين وخمسمائة. وانتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهة من عمره يتردد إلى الزبداني للتعليم، وكان مقيما بها في صون مقيم، ولما فتحت مصر انتقل إليها وحظي، وأعتبه دهره ورضي، ورتب الملك الناصر صلاح الدين على جامع مصر كل شهر جاريا، ليكون للنحو بها مقريا، وللعلم قاريا، وكنت لقيته بدمشق، فلما وصلت إلى مصر اجتمعت به، واستنشدته من شعره فأنشدني، وذلك في ربيع الآخر سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة)). وستأتي ترجمته في سنة وفاته.
وقال ابن عساكر (499 ــ 571هـ) في كتابه (تاريخ دمشق): ((إنّ الزبداني مدينة حسنة كثيرة البساتين والخيرات، ولا سور لها، وكان ملوك دمشق وحكامها يقطعونها الأمراء والولاة الذين فقدوا بلادهم بسبب الحروب وغيرها ويعوضونهم عما دهاهم)). وقد راجعت هذا السفر العظيم الذي كتبه ابن عساكر عن تاريخ دمشق فلم أجده يذكر الزبداني إلا في موضعين: هما قصتان جميلتان سوف أوردهما هنا للعبرة كما هي الغاية من القصص التاريخية دائما.
ففي الجزء (56) ذكر ابن عساكر عن الزبداني هذه القصة في ترجمة عبد الواحد بن واقد أحد الصالحين، فقال: ((عبد الواحد بن واقد أحد الصالحين، حكى عنه أبو بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز المكي أنا الحسين بن يحيى بن إبراهيم بن الحكاك المكي أنا الحسين بن علي بن محمد الشيرازي بمكة أنا علي بن عبد الله بن جهضم حدثني أبو بكر محمد بن داود حدثني محمد بن إسماعيل الفرغاني قال: كنت مع عبد الواحد بن واقد فخرجنا نحو الزبداني، فإذا نبطية معها حمارة قد سخرها جندي، فلما خلى بها راودها عن نفسها فمنعه عبد الواحد من ذلك وقال: دع المرأة، فأبى وألح، فغضب عبد الواحد من ذلك غضبا شديدا، وقال: ويلك دع المرأة، فأبى وقال لغلمانه خذوه، فقال عبد الواحد: يا أرض خذيه، فأخذته الأرض ومضت المرأة، فقلت له: لا أصحبك، فقال: ولم؟ قلت: أنا بشر لا آمن أن أزل زلة فتفعل مثل ما رأيت، فقال: يا أبا بكر ما هذا حالي ولكن الله أراد أن يريكم آية)).
وفي الجزء (105) ذكر ابن عساكر هذه القصة عن الزبداني فقال: ((رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي، أخبرنا أبو الفتح نصر الله بن محمد أنا نصر بن إبراهيم أنا أبو رجاء هبة الله بن محمد بن علي الشيرازي إجازة أنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم أنا أبو بكر محمد بن داود قال: كان بدمشق رجل له بغل يكريه من دمشق إلى تل الزبداني ويحمل عليه الناس، فذكر أنه أكرى بغله مرة رجل يحمل عليه متاعا له بأجرة معلومة، فلما صار خارج الدرب لقيه رجل وسأله أن يحمله على رأس الحمل ويأخذ منه أجرته، قال فرغبت في الكراء وحمله فوق الحمل، ولزمت المحجة، قال: فلما صرنا ببعض الطريق قال لي: هل لك أن تأخذ بنا هذا الطريق فإنه مختصر ويجئ عند مفرق طريقين، قال فقلت له: أنا لا أخبر هذا الطريق ولا أعرفه، فقال أنا أعرفه وقد سلكته مرارا كثيرة، قال فأخذت في ذلك الطريق فأشرفت على موضع وعر وحش وواد عظيم هائل واستوحشت وجعلت أنظر يمنة ويسرة ولا أرى أحدا ولا أرى أي إنسان، فبينا أنا كذلك إذا به يقول لي: امسك برأس البغل حتى أنزل، فقلت له أيش تنزل وقد أشرفت في هذا الموضع، مر بنا نلحق البلد بوقت، فقال خذ ويلك برأس البغل حتى أنزل، وقد أشرفت على واد عظيم يخايل لي أن فيه أقواما موتى فأمسكت برأس البغل حتى نزل، ثم شد على نفسه ثيابه وأخرج سكينا عظيما من وسطه وقصدني به ليقتلني فعدوت من بين يديه وأنا أقول يا هذا خذ البغل وما عليه، فقال هذا هو ولي وإنما أريد أقتلك، فخوفته بالله عز و جل وتضرعت إليه وبكيت وحذرته من عقوبة تلحقه فأبى وقال ليس بد من قتلك، فاستسلمت في يده وقلت دعني أصلي ركعتين ثم افعل ما بدا لك، فقال افعل ولا تطول، فابتدأت بالتكبير وأرتج علي القراءة حتى لم أذكر من القرآن حرفا واحدا وأنا واقف متحير وهو جالس بحذائي يقول هيه افرغ، فأجرى الله على لساني بعد وقت فقرأت (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله، قليلا ما تذكرون) فإذا أنا بفارس قد أقبل من نحو الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده وخر صريعا، فتعلقت بالفارس وهو منصرف وقلت له: بالله من أنت الذي منَّ الله بحياتي بظهورك؟ فقال: أنا رسول (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله، قليلا ما تذكرون) قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت إلى دمشق سالما)). قلت: وقد ذكر ابن كثير هذه القصة في تفسيره (تفسير القرآن العظيم) في تفسير هذه الآية (62) من سورة النمل وعزاها لابن عساكر في تاريخه
((فصل: قال الرئيس أبو يعلى: اتصل الخبر بنور الدين بإفساد الفرنج في الأعمال الحَوْرَانيّة بالنّهب والسبي، فعزم على التأهب لقصدهم، وكتب إلى مَنْ دمشق يعُلمهم بما عزم عليه من الجهاد ويستدعي المعونة على ذلك بألف فارس تصل إليه مع مقدم يعول عليه. وقد كانوا عاهدوا الفرنج على أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين، فاحتج عليه وغولط. فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس، وبعض العسكرية بيعفور. فلما قرب من دمشق وعرف من بها خبره ولم يعلموا أين قصده، وقد كانوا راسلوا الإفرنج بخبره، قرروا معهم الإنجاد عليه، وكانوا قد نهضوا إلى ناحية عسقلان لعمارة غزة، ووصلت أوائلهم إلى بانياس. وعرف نور الدين خبرهم فلم يحفل بهم، وقال: لا أنحرف عن جهادهم، وهو مع ذلك كافّ أيدي أصحابه عن العيث والإفساد في الضايع، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف عنهم، والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها، وسائر البلاد وأطرافها وكان الغيث قد انحبس عن حَوْرَان والمرج والغوطة، ونزح أكثر أهل حوران عنها للْمَحْل واشتداد الأمر. فلما وصل نور الدين إلى بعلبك اتفق نزول المطر يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة، وأقام إلى مثله، فروّى الآكام والوهاد، وجرت الأودية، وزادت الأنهار، وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها، وطرد ما صوّح من النبات والزرع غضَّا طريا، وجد الناس بالدعاء لنور الدين وقالوا هذا ببركته وحُسْن مَعْدلته وسيرته. ثم رحل من منزله بالأعوج، ونزل بجسر الخشب المعروف بمنازل العساكر في السادس والعشرين من ذي الحجة، وأرسل إلى مجير الدين والرئيس، وقال: إنني ما قصدت بنزول هذا المنزل طلبا لمحاربتكم ولا منازلتكم، وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حَوْران. والعربان بأن الفلاحين أخذت أموالهم وسُبيت نساؤهم وأطفالهم بيد الفرنج، وعدم الناصر لهم ولا يسعني، مع ما أعطاني الله، وله الحمد، من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين، وكثرة المال والرجال، أن أقعد عنهم ولا أنتصر لهم، مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذبّ عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالإفرنج على محاربتي، وبذلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلما لهم وتعدّيا عليهم. وهذا ما لا يرضي الله تعالى ولا أحدا من المسلمين؛ ولابد من المعونة بألف فارس مُزاحِي العلّة، تُجرّدُ مع من يوثق بشجاعته من المقدّمين، لتخليص ثغر عسقلان وغزّة. قال: فكان الجواب عن هذه الرسالة: ليس بيننا وبينك إلا السيف، وسُيوافينا من الإفرنج ما يُعينُنا على دفعك إن قصدتنا ونزلت إلينا. فلما عاد الرسول بهذا الجواب ووقف عليه، أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى البلد ومحاربته في غد ذلك اليوم. فأرسل الله من الأمطار وتدارُكها ودوامها ما منعه من ذلك)).
وفي أحداث سنة (546هـ) الموافق (1152م) ذكر ابن القلانسي أن نور الدين زنكي كان يحاصر دمشق التي كان يحكمها مجير الدين أرتق السلجوقي وكان يناور الإفرنج في نواحي دمشق للإيقاع بهم فانحاز إلى نواحي الزبداني لاستجرارهم إليها ولكن ذلك لم يحصل، فقال أبو يعلى ابن القلانسي في (تاريخ دمشق): ((ثم رحل في يوم الخميس لعشر بقين من صفر إلى ناحية داريا لتواصل الإرجاف بقرب عسكر الإفرنج من البلد للإنجاد، ليكون قريبا من معابرهم لقوة العزائم على لقائهم والاستعداد لحربهم، لأن العسكر النوري صار في عدد لا يُحصى كثرة وقوة، وفي كل يوم زيادة بما يتواصل من الجهات وطوائف التركمان، ونور الدين مع هذه الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع إلى قتال أحد من المسلمين من رجال البلد وعوامه تحرجا من إراقة الدم فيما لا يجدي نفعا، إذ كانوا يحملهم الغرور والجهل على التسرع والظهور ولا يعودون إلا خاسرين مفلولين. وأقام نور الدين على هذه الصورة ثم رحل إلى ناحية الأعوج لقرب عسكر الإفرنج وعزمهم على قصده، واقتضى رأيه الرحيل إلى ناحية الزبداني استجرارا لهم، وأفرق من عسكره فريقا يناهز أربعة آلاف فارس مع جماعة من المقدمين ليكونوا في أعمال حوران مع العرب، وخروج العسكر الدمشقي إليهم واجتماعهم بهم ثم يقاطع عليهم)).
حوالي سنة (550هـ) الموافق (1156م) كان في الزبداني مدرسة للعلوم الشرعية، وهي أقدم المدارس التي علمنا بوجودها، وكان فيها مدرسون يأتون من دمشق إلى الزبداني للتدريس والتعليم، وقد علمنا بذلك من ترجمة أبو الفتح البلطي عثمان بن عيسى بن هيجون حيث ورد في ترجمته أنه كان مقيما في دمشق وكان يتردد إلى الزبداني للتعليم فيها وذلك قبل ذهابه إلى مصر، ذكر ذلك الأصفهاني في كتابه (خِرِّيدة العصر وجريدة القصر) كما ذكر ذلك الصفدي في كتابه (الوافي في الوفيات).
وفي سنة (560هـ) الموافق (1165م) توفي الشريف الإدريسي محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس، وكان قد وضع كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) وذكر فيه عين الفيجة وقرية آبل (سوق وادي بردى) فقال: ((ودمشق أنزه بلاد الله من خارج. ومياه الغوطة الجارية بها تخرج من عين الفيجة، وهذه العين في أعلى جبل وينصب ماؤها من أعلى هذا الجبل كالنهر العظيم له صوت هائل ودوي عظيم يسمع على بعد، ويرى نزول الماء من أعلى الجبل على قرية آبل حتى ينتهي إلى المدينة، فتتفرع منه الأنهار المعروفة بها، منها: نهر يزيد ونهر ثورة ونهر بردى ونهر قناة المزة ونهر بانياس ونهر سقط ونهر يشكور ونهر عادية، وهذا النهر ليس بمشروب منه لأن عليه مصبات أوساخ المدينة وأوزار غسالاتها وقنوات صغار، ويشق لهذا النهر وسط المدينة وعليه قنطرة يجتاز عليها الناس، وكذلك أيضا سائر الأودية التي ذكرناها تخرج منها سواق تخترق المدينة وتجري إلى دورها وحماماتها وبساتينها وأسواقها)).
وقبل سنة (565هـ) الموافق (1171م) توالى على حكم الزبداني عدد من الأمراء من أبنائها، ومنهم الأمير حجي بن عبيد الله، وقد ذكر ذلك العماد الأصفهاني في كتابه (خِرِّيدة القصر وجريدة العصر) فذكر أنّ الشاعر علي بن ثروان بن الحسن الكندي (وفاته بعد سنة 565هـ) الملقب شمس الدين أبو الحسن، قصد الأمير حجي بن عبيد الله ولم يجده فكتب على بابه:
حضر الكندي مغناكم فلم * يركم من بعد كد وتعب
لو رآكم لتجلى همه * وانثنى عنكم بحسن المنقلب
قال الأصفهاني في ترجمة الشاعر الكندي: ((شمس الدين أبو الحسن علي بن ثروان بن الحسن الكندي، كان أديباً فاضلاً، أريباً كاملاً، قد أتقن الأدب، وقرأ اللغة على ابن الجواليقي وغيره من صدور العلم وبحوره. وقد ذكرت تاج الدين الكندي ابن عمه من أهل بغداد، وهذا، لإقامته بدمشق أوردته مع أهلها، والأصل من الخابور. رأيته بدمشق مشهودا لفضله بالوفور، مشهورا بالمعرفة بين الجمهور، موثوقا بقوله، مغبوقا مصبوحا من نور الدين بطوله. وتوفي بعد سنة خمس وستين وخمسمائة. وله شعر كثير، وفضل ونظم ونثير، ولم يقع إليّ ما أشد يد الانتقاد عليه، وأصرف عنان الانتقاء إليه. ومن جملة ذلك أنه قصد بعض رؤساء الزبداني وهو الأمير حجي بن عبيد الله فلم يجده، فكتب على بابه هذين البيتين، (وذكر البيتين السابقين) ثم قال: أنشدنيهما التاج البلطي بمصر)).
ثم توالى على حكم الزبداني عدد من أمراء بني سرايا، ولم نقف لهم على تاريخ محدد في هذه الفترة وإنما علمنا بوجودهم من خلال شعر الهجاء الذي قاله فيهم التاج البلطي أبو الفتح عثمان بن عيسى بن هيجون، حيث ذكر الأصفهاني في كتابه (خِرِّيدة القصر وجريدة العصر) أن التاج البلطي أنشده بمصر سنة (572هـ) ما قاله في هجاء أمراء الزبداني من بني سرايا فقال:
من أحبَّ الهوان لا يتعدى الدهر * سكناه بين آل سرايا
ما أعدوا لنازل بهم شيئا * سوى الجبة بالخنا والرزايا
قال الأصفهاني في ترجمة التاج البلطي صاحب الأبيات السابقة: ((ذكر أن أصله من بلدة يقال لها بلط، ومولده في بني مايدة بالموصل لثلاث بقين من شهر رمضان سنة أربع وعشرين وخمسمائة. وانتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهة من عمره يتردد إلى الزبداني للتعليم، وكان مقيما بها في صون مقيم، ولما فتحت مصر انتقل إليها وحظي، وأعتبه دهره ورضي، ورتب الملك الناصر صلاح الدين على جامع مصر كل شهر جاريا، ليكون للنحو بها مقريا، وللعلم قاريا، وكنت لقيته بدمشق، فلما وصلت إلى مصر اجتمعت به، واستنشدته من شعره فأنشدني، وذلك في ربيع الآخر سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة)). وستأتي ترجمته في سنة وفاته.
وقال ابن عساكر (499 ــ 571هـ) في كتابه (تاريخ دمشق): ((إنّ الزبداني مدينة حسنة كثيرة البساتين والخيرات، ولا سور لها، وكان ملوك دمشق وحكامها يقطعونها الأمراء والولاة الذين فقدوا بلادهم بسبب الحروب وغيرها ويعوضونهم عما دهاهم)). وقد راجعت هذا السفر العظيم الذي كتبه ابن عساكر عن تاريخ دمشق فلم أجده يذكر الزبداني إلا في موضعين: هما قصتان جميلتان سوف أوردهما هنا للعبرة كما هي الغاية من القصص التاريخية دائما.
ففي الجزء (56) ذكر ابن عساكر عن الزبداني هذه القصة في ترجمة عبد الواحد بن واقد أحد الصالحين، فقال: ((عبد الواحد بن واقد أحد الصالحين، حكى عنه أبو بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز المكي أنا الحسين بن يحيى بن إبراهيم بن الحكاك المكي أنا الحسين بن علي بن محمد الشيرازي بمكة أنا علي بن عبد الله بن جهضم حدثني أبو بكر محمد بن داود حدثني محمد بن إسماعيل الفرغاني قال: كنت مع عبد الواحد بن واقد فخرجنا نحو الزبداني، فإذا نبطية معها حمارة قد سخرها جندي، فلما خلى بها راودها عن نفسها فمنعه عبد الواحد من ذلك وقال: دع المرأة، فأبى وألح، فغضب عبد الواحد من ذلك غضبا شديدا، وقال: ويلك دع المرأة، فأبى وقال لغلمانه خذوه، فقال عبد الواحد: يا أرض خذيه، فأخذته الأرض ومضت المرأة، فقلت له: لا أصحبك، فقال: ولم؟ قلت: أنا بشر لا آمن أن أزل زلة فتفعل مثل ما رأيت، فقال: يا أبا بكر ما هذا حالي ولكن الله أراد أن يريكم آية)).
وفي الجزء (105) ذكر ابن عساكر هذه القصة عن الزبداني فقال: ((رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي، أخبرنا أبو الفتح نصر الله بن محمد أنا نصر بن إبراهيم أنا أبو رجاء هبة الله بن محمد بن علي الشيرازي إجازة أنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم أنا أبو بكر محمد بن داود قال: كان بدمشق رجل له بغل يكريه من دمشق إلى تل الزبداني ويحمل عليه الناس، فذكر أنه أكرى بغله مرة رجل يحمل عليه متاعا له بأجرة معلومة، فلما صار خارج الدرب لقيه رجل وسأله أن يحمله على رأس الحمل ويأخذ منه أجرته، قال فرغبت في الكراء وحمله فوق الحمل، ولزمت المحجة، قال: فلما صرنا ببعض الطريق قال لي: هل لك أن تأخذ بنا هذا الطريق فإنه مختصر ويجئ عند مفرق طريقين، قال فقلت له: أنا لا أخبر هذا الطريق ولا أعرفه، فقال أنا أعرفه وقد سلكته مرارا كثيرة، قال فأخذت في ذلك الطريق فأشرفت على موضع وعر وحش وواد عظيم هائل واستوحشت وجعلت أنظر يمنة ويسرة ولا أرى أحدا ولا أرى أي إنسان، فبينا أنا كذلك إذا به يقول لي: امسك برأس البغل حتى أنزل، فقلت له أيش تنزل وقد أشرفت في هذا الموضع، مر بنا نلحق البلد بوقت، فقال خذ ويلك برأس البغل حتى أنزل، وقد أشرفت على واد عظيم يخايل لي أن فيه أقواما موتى فأمسكت برأس البغل حتى نزل، ثم شد على نفسه ثيابه وأخرج سكينا عظيما من وسطه وقصدني به ليقتلني فعدوت من بين يديه وأنا أقول يا هذا خذ البغل وما عليه، فقال هذا هو ولي وإنما أريد أقتلك، فخوفته بالله عز و جل وتضرعت إليه وبكيت وحذرته من عقوبة تلحقه فأبى وقال ليس بد من قتلك، فاستسلمت في يده وقلت دعني أصلي ركعتين ثم افعل ما بدا لك، فقال افعل ولا تطول، فابتدأت بالتكبير وأرتج علي القراءة حتى لم أذكر من القرآن حرفا واحدا وأنا واقف متحير وهو جالس بحذائي يقول هيه افرغ، فأجرى الله على لساني بعد وقت فقرأت (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله، قليلا ما تذكرون) فإذا أنا بفارس قد أقبل من نحو الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده وخر صريعا، فتعلقت بالفارس وهو منصرف وقلت له: بالله من أنت الذي منَّ الله بحياتي بظهورك؟ فقال: أنا رسول (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله، قليلا ما تذكرون) قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت إلى دمشق سالما)). قلت: وقد ذكر ابن كثير هذه القصة في تفسيره (تفسير القرآن العظيم) في تفسير هذه الآية (62) من سورة النمل وعزاها لابن عساكر في تاريخه
تعليقات
إرسال تعليق