ثم بتنا تلك الليلة وأصبحنا في اليوم الثامن وهو يوم الثلاثاء المبارك، فصلينا الصبح بالجماعة وركبنا ولنا لله بالمعونة تدارك، فمررنا في الطريق على قرية تسمى سعد نائيل، وهي أول قرى البقاع العزيز. ثم سرنا إلى أرض البقاع، وتأملنا هاتيك الجبال والوهاد مما تلتذ برؤيته العيون وبلطائف نسماته الأسماع.
ثم مررنا بقرية ثعلباية، بفتح الثاء المثلثة وسكون العين وفتح اللام بعدها باء موحدة وألف ثم ياء تحتية وهاء، فنزلنا وزرنا فيها قبر الشيخ عبد الله العجمي رحمه الله تعالى، ودعونا الله تعالى عنده، وحصل لنا كمال الأجور.. ثم سرنا إلى جهة القرية المشهورة بقب إلياس، ولعل الصواب في ذلك قبر إلياس، وأنه من تحريفات العوام، وهو قبر النبي إلياس عليه الصلاة والسلام، قال في القاموس: بقاع كلب موضع قرب دمشق به قبر إلياس عليه الصلاة والسلام. انتهى. ولعل تلك القرية كان اسمها بقاع كلب في الزمان الماضي، ويؤيده ما أخبرنا به بعض أهلها أن هناك مكانا يسمى رجل كلب، بكسر الراء وسكون الجيم، وكلب اسم قبيلة من العرب كانوا ينزلون في تلك القرية فسميت بهم، ثم أقبلنا على قبر إلياس عليه الصلاة والسلام.. ثم دخلنا القرية المذكورة، وخرج للقائنا أهلها بقلوب صافية مسرورة، وكان ممن خرج فتلقانا بصدره الرحيب، وحسن طلعته وجمال بشاشته فجلى علينا وجه الحبيب، محبنا وصديقنا مفخر الأعيان، ومعدن كمالات الإنسان، خدا وردي شربجي ابن الراعي حفظه الله تعالى، وكان سردار العسكر المحافظين في البقاع العزيز، وخرجت معه جماعة كثيرة جعلهم الله تعالى من العناية في حرز حريز، وقد جاءنا في ذلك اليوم من دمشق الشام، من حضرة أخينا شقيقنا العلامة الشيخ يوسف النابلسي فيه البشارة لنا بمولود غلام، فبنينا على ذلك الأساس، وأكملنا قصيدة في مدح نبي الله إلياس، واتفق لنا في هذه القصيدة تاريخ المولود، جعله الله تعالى بالخيرات مسعود.. وقد ورد علينا إلى قبر إلياس عليه السلام في ذلك اليوم رجل من أقاربنا وهو من الصالحين اسمه الشيخ مسعود، فتفاءلنا باسمه المبارك فيما جاءنا من المولود، وكان معه كديش عليه قتب، وهو راكب على ذلك وصابر على مشقته والصبر مرتبة من الرتب، وقد أذن له صاحبه من قرية بر إلياس أن يزور عليه قبر النبي نوح عليه السلام فقط، فدار به معنا جميع زيارات البقاع فلعله بذلك للأجور التقط، وكان يصعد به إلى الجبال وينزل به في الوهاد، وهو محلول الحزام وراكبه محفوظ من السقوط ببركة السادة الأمجاد. وقد توافق هذا الكديش مع ذلك الحمار، في أن كل واحد منهما مأخوذ من غير إذن صاحبه ولهذا أكثرنا عنه الإخبار، وبلغنا عن صاحب الحمار أنه كان يعاتب حماره على تقصيره في السير، ويعده أن يأخذه إلى قرية بيت سحم للنشاط والسير، حتى إننا لم نسمع له في تلك الليلة صوت نهاق.. وبلغنا أيضا أن ذلك الحمار حرد على صاحبه ورمى بمخلات العليق، وقصد الدجاجة ليأكلها بالحياة من فرط ما صار عنده من الضيق.. وكان معنا أحمدان لطيفان، أحدهما في دمشق الشام رئيس الأذان، والآخر يطعم من طرائفه الأفواه ويتحف بلطائفه الآذان.. ثم بتنا تلك الليلة في القرية المذبورة، وأصبحنا يوم الأربعاء وهو اليوم التاسع من تاريخ هذه الرحلة المسطورة، وقد وجدنا في قرية قبر إلياس المذكورة، قلعة متينة من بناء ابن معن الذي كان أمير الدروز سابقا وله سيرة غير مشكورة، وخارج القلعة برج خراب، وفيه بئر ماء مردوم بالتراب، وباب القلعة تجاه ذلك البئر المهدوم، وهو باب من الخشب المتين لا يعمل فيه الفأس ولا القدوم، وداخل الباب دهليز طويل، جميعه مبني بالأحجار الكبار والقبو الذي ما إليه سبيل، وعلى يمنة الداخل حجرة كبيرة ذات مرامي متينة، وفيها درج إلى سطح القلعة وبئر ماء غير معينة، ثم في نهاية ذلك الدهليز باب للقلعة ثاني، وداخله دهليز صغير ينتفع فيه القاصد والمعاني، ثم بعد ذلك باب ثالث يدخل منه إلى تلك الساحة، في وسط القلعة وهي واسعة المساحة، وفي وسطها بئر يجتمع فيه الماء من الأمطار التي تنزل من أعالي الأسطحة، وهو بئر كبير أوسع من قدر نصف الساحة، له فما منفتحان للانتفاع والمصلحة، وفي تلك الساحة إيوان واسع كبير، في كل ناحية من نواحيه فجوة ذات شباكين ما لهما من نظير، وفيهما مطبخان كبيران، مبنيان بالأحجار من الصوان، وبالقرب منهما بيتان لما يحتاج إليه من آلات الطبخ معدان، وهناك فرن وحمام صغير، وثلاث حجرات شرقية كبار ذات شبابيك شرقية كلها معمولة بالقبر والتحجير، والجهة الشرقية مشتملة على أربع حجرات، وعلى ميمنة الإيوان باب فيه عشرون من الدرجات، وعلى ميسرة هذا الدرج حجرة مظلمة ليس فيها شبابيك غير مرماة واحدة، وداخلها دهليز فيه سبعة مرامي نافدة، وعلى ميسرة هذا الدهليز حجرة كبيرة، فيها شباكان مطلان على ساحة القلعة الخطيرة، وأيضا حجرة مطلة على تلك الساحة المستديرة، وعلى ميمنة الدرج المذكور إيوان كبير، وفيه مرامي وشبابيك يتمتع بها كل بصير، وخارجه حجرة فيها شبابيك ومرامي، وباب يتوصل منه بدرج إلى سطح القلعة السامي، وفيها أيضا باب بعشرين دركة في أعلاه بيت للطهارة مع دهليز ثاني، به مرامي أتقنها الباني، وفي ميسرة ذلك الدهليز حجرة شمالية، فيها منافع شرعية، وفيها ثلاثة شبابيك مطلة على أماكن عليّة، ثم بعد ذلك حجرة بشباكين مطلين على الساحة المذبورة، وأيضا حجرة شتوية صغيرة، وأيضا درجان على الميسرة يصعد منها إلى السطح، كل واحد منهما خمسة عشر درجة، وسبع مرامي على أسطحة الحجرات مندرجة، وفي كل حجرة من الحجرات المذكورة وجاق مبني من الحجارة، وهناك حجرات شمالي القلعة قد شرع في بنائها وما تمت لها العمارة، وفي تلك الأسطحة ميازيب من الحجر إلى جهة ساحة القلعة، وأيضا مقدار الأربعين درجة إلى أسفل تلك الساحة ذات الوسعة، وفي أثناء الدرج بيت للطهارة، ودرج آخر على يمنته ثمانية حجرات كل ذلك مصنوع من الحجارة، وبالجملة فهي قلعة مشتملة على منافع كثيرة، وأمور تدعو إليها الضرورة..
ثم بتنا أيضا بتلك القرية، فلما أصبحنا يوم الخميس وهو اليوم العاشر بلا مرية، توجهنا للزيارات التي في جبل لبنان، بمعونة الكريم المنان.. ثم إننا مررنا على حسب مقتضى الداعي، بقبر وجدناه هناك يقال أنه قبر شيبان الراعي، فوقفنا عنده، ودونا الله تعالى أن يديم إحسانه ورفده. ثم مررنا بقبر نبي الله داود عليه السلام، وهو قبر طويل ليس عليه بنيان، وقيل لنا هذا قبره والله أعلم بحقيقة ذلك الكلام، والمشهور أن قبره في بيت المقدس، فوقفنا عنده ودعونا الله تعالى بقلب في زيارته متأنس، قال الهروي في الزيارات: بيت لحم بلدة بها مولد عيسى، ويقال أن لداود وسليمان عليهما السلام قبران فيه. انتهى. ومررنا بالقرب من عين الصالحين، ورجونا من الله تعالى أن يجيبنا فيما دعوناه ببركة من يرد عليها من عباده السائحين. ثم توجهنا إلى جهة عين العابد، وهي عين مباركة في أعلى جبل لبنان يأوي إليها الراكع والساجد.. وقد مررنا في ذلك الطريق، على عين تسمى عين المضيق، ومررنا بذلك السهل الممتنع من اتساعه على الرفيق.. ونظرنا إلى جبل لبنان، فرأيناه جبلا عظيم القدر والشأن، يشتمل على مياه جارية، وأشجار من جميع الألوان مرتفعة عالية، وثمار مختلفة، وأزهار مؤتلفة وغير مؤتلفة، وعرائش من الأعناب، وأمور تتحير فيها أولو الألباب، حتى إنا وجدنا فيه شجرة من السنديان كبيرة، حاملة حجرا عظيما لم تر العيون نظيره، وقد اقتلعته من الأرض فهو بها ملتصق وملتحم، وهي تحيط به وعليه تحكم، وأخبرنا هناك بعض الناس، أن الذئب لا يعدو على الشاة في ذلك الجبل المبارك وليس له على الحيوان اعتساس، ولم ينهق في ذلك المكان، الحمار المذكور سابقا لعدم وجود الشيطان. ثم توجهنا بعد ذلك، بمعونة القدير المالك، إلى ذوق التركمان المشهور بذوق البصلية، وقد دعونا إلى ضيافتهم فأجبناهم بنفس مرضية، فوصلنا إليهم عشية، وقد ضربوا لنا قبة مستديرة معمولة من اللبابيد التركية، فبتنا عندهم تلك الليلة في عيشة مرضية ..... ثم صعدنا إلى أعلى ذلك الجبل البعيد الداني، وزرنا في قلبه المبارك قبر الشيخ عبد الرحمن الرمثاني، بفتح الراء وفتح الميم والثاء المثلثة بعدها ألف ثم نون وياء للنسبة نسبة إلى قرية في البقاع تسمى رمثانية، بتشديد الياء التحتانية، وهو الشيخ القطب عبد الرحمن الرمثاني تلميذ الإمام جعفر الصادق، وكان من تلامذة تلامذته الشيخ العارف بالله تعالى قطب الدين عبد الحق بن سبعين، بينه وبينه ثلاثة شيوخ لأنه أخذ عن عبد الله البدل تلميذ صالح اللبناني تلميذ عبد العزيز الولي تلميذ عبد الرحمن الرمثاني المذكور رضي الله عنهم أجمعين. وأخبرنا بعض أهل تلك القرية أن الشيخ رُؤي في المنام فقال أنا مكي، فقالوا: يشير إلى أنه منسوب إلى قرية بين مكة والمدينة يقال لها رمثة، بفتح الراء وسكون الميم وفتح الثاء المثلثة بعدها هاء. وأخبرنا جماعة من تلك القرية وغيرها في سبب تسميته بالرمثاني أنه من ذرية الشيخ عدي بن مسافر رضي الله عنهما، وكان للشيخ عدي المذكور تلميذ وقد حبس في مصر بالقلعة فاشتد عليه الحال فنادى بالشيخ عدي، وتوجه إلى الاحتماء بسره الندي، فأخذ الشيخ سهما وضربه بالقلعة، فتلقته ابنة الملك وكانت من الصالحات بقوة وسرعة، فأخذ الشيخ عبد الرحمن المذكور سهما ورمى ثانيا، فأصاب تلك القلعة فسقط سورها، وأطلق ذلك الرجل الذي هو أسيرها، فلأجل ذلك قيل له رمثاني لأنه رمى رميا ثانيا. وعلى قبر الشيخ عبد الرحمن المذكور أباريق كثيرة من الفخار، ينذرها له من يمر عليه من أهل القرية عيثا خوفا على أحمالهم من الانكسار، ولما قدم الجماعة معنا فتشوا جميع تلك الأباريق، فلم يجدوا فيها شيئا من الماء يبل الريق، وكان معنا رجل اسمه عبد الرحمن فجاء إلى عند الشيخ الرمثاني وقال له: إن كان اسمك على اسمي فاسقني شيئا من الماء فإني عطشان، فنظر في بعض الأباريق التي عنده فوجد شيئا من الماء فشربه وذلك من لطائف الإحسان. وبلغنا أنه كان عنده بئر يوجد دائما فيه الماء فجاءت جماعة من الدروز، صادوا خنزيرا فغسلوه في ذلك الماء وشووه وأكلوه فغار منه ذلك الماء الذي كان فيه محروز، ولم يوجد بعد ذلك ماء في ذلك البئر، فحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير. وأخبرنا خطيب تلك القرية قرية كفريا أنه يجد في كثير من الأحيان، في قلب جبل لبنان، بالقرب من الشيخ عبد الرحمن، قبورا جديدة لا يعهد أنه دفن فيها إنسان، فلعلها قبور من يموت من الصالحين، الذين لهم سياحة في ذلك الجبل من الزاهدين العابدين. وأخبرنا ذلك الخطيب أيضا وكان من أهل الصلاح والدين، أنه ربما يصعد إلى ذلك الجبل جبل لبنان، فيزور ذلك المحفل المدفون فيه الشيخ عبد الرحمن، فيجد هناك جماعات من الصالحين، يكلمهم ولا يكلمونه، وينظرهم وينظرونه، وهم فيه باهتون، وعن كلامه ساكتون، ويجد لهم هيبة واحتشاما، وجلالة واحتراما، وينصرف عنهم وهم على ذلك الحال، ولا شك أنهم السادة أرباب الأحوال. وذكر لنا أيضا أن الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى المتقدم ذكره، زار حضرة الشيخ عبد الرحمن القابح في هذا المقام نشره، فقال له يا شيخ عبد الرحمن مقامك هذا عظيم، إلا أنه ليس فيه ما يشرب للمسافر والمقيم، فأخذ الشيخ إبريقين ومد يديه بهما إلى الوادي، وملأهما من الماء وجاء بهما إلى الشيخ عبد الله، فيا حسن تلك الأيادي. وذكر لنا أيضا أن الشيخ موسى الغماري، بضم الغين المعجمة وفتح الميم والراء المهملة المكسورة، المغربي رحمه الله تعالى مدفون هناك، ورأينا قبره بالقرب من قبر الشيخ عبد الرحمن فتلك الحضرة بينهما بالاشتراك، وقد توفي الشيخ موسى المذكور في سنة تسعمائة وتسعين، أو قريب من ذلك السنين. وذكر لنا أن الشيخ موسى قال في مرضه لأهل القرية التي كان بها مريضا من قرى البقاع، إن مت فادفنوني عندكم ثم إنه غلب عليه المرض فقرب من النزاع، فرأى الشيخ عبد الرحمن المذكور، ومعه جماعة من الأولياء أصحاب الحضور، فقالوا له إنك ضيفنا وإن لك عندنا مكانا وهو هذا المكان، وقد أشاروا له إلى موضع قبره الآن، فلما أفاق من ذلك فقال لهم إذا مت فادفنوني شمال البئر الذي عند قبر الشيخ عبد الرحمن، وأعطى الذين يحملونه إلى ذلك المكان دينارين من الذهب، فلما توفي غسلوه وكفنوه وحملوه إلى ذلك الجبل وقد أدركتهم الهيبة والرهب، فسمعوا قائلا يقول لا تصلوا عليه في هذا الوقت، فتملكهم الوحشة والمقت، يعني لتصلي عليه الأولياء الصالحون، وعباد الله المكرمون، ثم بعد حصة صلوا عليه، ودفنوه في القبر المشار إليه، والله أعلم بما كان ويكون، وقد وقفنا هناك ودعونا الله تعالى الذي أمره بين الكاف والنون، إنما أمره إذا أراده يقول له كن فيكون.
وقد زرنا هناك أيضا في قلب جبل لبنان، بالقرب من قبر الرمثاني المذكور قبر السيدة مريم بنت عمران، فوجدناه قبرا عظيما عليه مهابة وجلالة، طوله نحو الخمسة أذرع وهو في أشرف حاله، فوقفنا عنده ودعونا الله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين، الحاضرين معنا والغائبين، قال الهروي في الزيارات: إن في بيت المقدس وادي جهنم وفيه قبر مريم أم عيسى عليهم السلام ينزل إليه في ستة وثلاثين درجة. انتهى. وفي باب الفراديس داخل دمشق عند باب المدينة قبر بين بيوت الدخلة التي تسمى بالسادات يقال أنه قبر مريم بنت عمران، ومما يؤيد القول الأول أنها في جبل لبنان ما رأيته مذكورا في كتاب غاية الغايات في الأخبار والحكايات للشيخ أبي زكريا يحيى بن الحسن الأذدويلي المؤدي قال فيه ما ملخصه: وعن وهب بن منبه قال: وجدت في بعض الكتب أن عيسى بن مريم عليهما السلام قال لأمه يا أماه إني وجدت مما علمني ربي أن هذه الدار دار فناء وزوال ودار الآخرة هي الدار الباقية التي لا تخرب أبدا فتعالي يا أماه نأخذ من هذه الدار الفانية للدار الباقية، فانطلقا إلى جبل لبنان فكانا فيه يصومان النهار ويقومان الليل وكانا يأكلان من ورق الأشجار ويشربان من ماء العيون والأمطار، فمكثا في ذلك زمانا طويلا، ثم إن عيسى عليه السلام نزل ذات يوم من الجبل إلى بطن الوادي لكي يلتقط البقول والحشيش لإفطارهما، فهبط ملك الموت على مريم وهي معتكفة في محرابها فقال السلام عليك يا مريم الصائمة القائمة فغشي عليها من هول ذلك ثم أفاقت فقالت من أنت يا عبد الله؟ فقال أنا ملك الموت فقالت ألا تأذن لي حتى يرجع ولدي عيسى عليه السلام فأتزود منه ومن ريحه قال يا مريم لم أؤمر بذلك، فقالت سلمت لأمر الله فدنا منها وقبض روحها، فأبطأ عيسى في ذلك اليوم عن وقته ولم يأت حتى دخل وقت العشاء الآخرة، فلما أتى ظن أنها نائمة حتى مضى ثلث الليل واستقبل المحراب ولم يفطر إكراما لأمه، ثم جاء إليها فوجدها ميتة فجعل عيسى عليه السلام يبكي ويقول من لوحشتي؟ ومن لأنسي وغربتي؟ ثم نزل من الجبل إلى قرية من قرى بني إسرائيل ينادي بصوت حزين السلام عليكم يا بني إسرائيل، فخرجوا إليه حتى ذوات الخدور من خدورهن، وقالوا من أنت يا عبد الله؟ فقال أنا روح الله عيسى بن مريم، إن أمي ماتت غريبة فأعينوني على غسلها وتكفينها ودفنها، فقالوا يا روح الله إن هذا الجبل كثير الأفاعي والحياة لم يسلكه آباؤنا منذ ثلاثمائة سنة فهذا الحنوط والكفن فخذه، فولى عيسى عليه السلام راجعا ولم يأخذ شيئا، وأتى الجبل فوجد شابين جميلين فسلم عليهما فردا السلام عليه، فقال لهما إن أمي ماتت غريبة في هذا الجبل فأعيناني على غسلها ودفنها، فصعدا معه إلى الجبل فغسلها معهما وكفنها وشق في الجبل شقا وجعل رأسها مما يلي القبلة التي كانوا يصلون إليها، ثم ساق بقية القصة بتمامها. وفي شرح القصيدة الهمزية الأبوصيرية للشيخ ابن حجر الهيثمي رحمه الله قال: ولما رفع عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء بقيت أمه بعد ذلك خمسا أو ستا كما قاله الجلال الأسيوطي، وقال أيضا لما رفع عيسى إلى السماء تعلقت به أمه وبكت فقال لها إن القيامة تجمعنا. انتهى كلامه. وهذا يناقض ما ذكرناه عن وهب بن منبه من القصة المذكورة، ويمكن التوفيق بينهما بأن عيسى عليه السلام رفع روحا وجسما كما هو الظاهر من الأخبار وبقيت أنه بعد رفعه تلك المدة المسطورة، وكان يجتمع معها في جبل لبنان بروحانيته فقط المتشكلة بصورة الجسمان كما هو المشهور من أحوال الأبدال في هذه الأمة المحمدية، والقصة محمولة على هذا الاجتماع الروحاني في هذه القضية، وقوله لها لما تعلقت به وبكت إن القيامة تجمعنا، يعني بالاجتماع الروحاني والجسماني مثل حالة الرفع فلا شيء يمنعنا، وأيضا ليس في الكلام حصرية يقتضي أن لا تجمعنا إلا القيامة. فيكون الظاهر من هذا كله أن قبرها هو الذي زرناه في جبل لبنان، والتمسنا منه البركة واللطف والإحسان.
ثم نزلنا من جبل لبنان، إلى وادي الجوز في أسفل الجبل مع الأصحاب والإخوان، وجلسنا هناك على عين ماء صافية، وظلال من الصخر باردة صافية، وكان معنا الهمام الكبير، صاحب القدر الخطير، ريحانة السرور، عيسى شربجي المشهور بابن حيمور.. ثم صلينا الظهر في ذلك الوادي، وذهبنا إلى حضرة سيدي الشيخ مسافر رضي الله عنه في قرية تسمى بيت فار عند الرائح والغادي، ولعل تسمية تلك القرية بذلك لأنها في جبل لبنان، وكان التنور قد فار منها في طوفان نوح عليه السلام في ذلك الزمان، قال الهروي في زياراته عند ذكره دمشق الشام: وقيل هي كانت دار نوح عليه السلام، وقيل التنور فار من جبل لبنان، والله أعلم. انتهى. فوقفنا في حضرة الشيخ مسافر رضي الله عنه عند باب قبته المرتفعة، وكانت البناؤون في ذلك الوقت يبيضونها بالجص وعندها الناس مجتمعة، فقرأنا الفاتحة ودعونا الله تعالى في السر والإعلان، للحاضرين والغائبين من الإخوان، وقد ذكر لنا أن الغنم والمعز إذا أصابها شيء من الأمراض، يأتون به إلى ضريحه الشريف ذي النور الفياض، ويديرونها حول ذلك الضريح من الخارج، فإنها تبرأ بإذن الله تعالى من غير معالج، والتي تقف قبالة الباب، تكون للشيخ رضي الله عنه نذرا ينتفع به الخدام والأحباب، وقد زرنا في تلك القرية الشيخ محمد المصمودي رضي الله عنه ودعونا الله تعالى عنده، ووالى علينا الله تعالى إنعامه ورفده، وقد زرنا في تلك القرية أيضا مغارة الشيخ مسافر المذكور، فحصل لنا كمال المسرة والحضور.. ثم ذهبنا إلى جهة جب جينين، فزرنا في الطريق قبر العباس ابن مرداس الصحابي ذي الهدى والدين، ووقفنا عنده ساعة من الحين، ودعونا الله تعالى لإخواننا الحاضرين والغائبين، ثم بتنا في القرية المذكورة تلك الليلة، فلما أصبحنا يوم الأحد وهو اليوم الثالث عشر وقد تفيأنا ظله ومقيله، زرنا في تلك القرية الشيخ إبراهيم من مشايخ الطريقة الدسوقية، والسيدة آيسة وأخيها الشيخ محمد وبقية تلك القبور النورانية، وذهبنا إلى زاوية الأشراف خارج تلك القرية، فعمل لنا مديحا صاحب تلك الزاوية أبيات وهو رجل من الصالحين بلا مرية، واسمه كمال الدين، وفي دينه كمال الدين، وأبياته هذه تدل على صلاحه، فأبقيناها على ما هي عليه تبركا به وقلنا صلاحه لها عين إصلاحه.. ثم سرنا فمررنا في الطرق على قرية تسمى كامد اللوز، وزرنا هناك قبرا يقال أنه قبر عبد الله بن مسعود ويقال أن اسمه الشيخ مجاهد وعلى كل حال فهو من أهل الصلاح والفوز، فوقفنا هناك ودعونا الله تعالى بما شاء الله من الأدعية سرا وجهرا، وزرنا قريبا منه أيضا قبر الشيخ يونس التغلبي عليه رحمة من الله تعالى تترا، ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى عين تسمى عين عزة، بفتح العين المهملة، فوقفنا هناك نشرب ونسقي الدواب بنفوس إلى المسير مستقرة، فبينما نحن كذلك إذ قدم علينا في ذلك المحل رجل من الأشراف الأعزة، فسلم علينا وسألناه عن اسمه فقال السيد أحمد، من آل عز الدين فتفاءلنا بهذا الفأل الأحمد، ثم إنه دعا لنا فقال من جملة دعائه زاد الله معناكم معنى، وهذا الذي حفظناه من عباراته بلفظه الأسنى. ثم سرنا حتى صعدنا إلى حضرة مولاي يعقوب المنصوري عليه الرحمة والرضوان، وهو في جبل عال وهناك قرية وجدنا فيها جماعة من الإخوان، فزرنا ضريحه المبارك، ودعونا عنده الله تعالى وتبارك، وقلنا في تلك الزيارة، مشيرين إلى ما في ضمن تلك النسبة الشريفة من الإشارة.. ثم جلسنا في تلك القرية تحت شجرة كبيرة من السنديان، منسوبة إلى الشيخ يعقوب المذكور عليه الرحمة والرضوان، وغلظها مقدار ثلاثين شبرا، وهو قدر الشجرة التي وجدناها عند نبي الله زريق الذي قدمنا له ذكرا، فمكثنا عند تلك الشجرة وقد صلينا الظهر، فأنشدنا بعض الحاضرين أبياتا منسوبة إلى الولي العارف بالله الشيخ إبراهيم الدسوقي المصري، قدس الله روحه ووالى عليه أنواع الطهر، وقد أنشدها متغيرة اللفظ والمعنى، ملحونة الوزن والمبنى، ثم طلب منا تخميسها في ذلك المكان، فأصلحناها على حسب القانون الشعري ومقتضى الميزان، ثم خمّسناها على البديهة بمقتضى فتح الكريم الرحمن.. ثم أنشد هذا التخميس في حضرة الشيخ يعقوب رحمه الله تعالى بالألحان، فحصل للحاضرين في تلك الحضرة كمال الخشوع والإذعان.
ثم إنا دعونا الله تعالى هناك وخرجنا من تلك القرية نريد الذهاب إلى قرية حمَّارة، بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم، فوصلنا إليها قبيل المغرب وقد أنزلنا فيها بعض المحبين داره، وأحسن لنا الضيافة، وأكرم مثوانا وزاد إتحافه، وقد أخبرنا رجل في هذه القرية المذكورة، أنه رأى ببلاد حمص رجلا طويل اللحية جدا وقد صار بها غريب الصورة، حتى إن لحيته إذا كان واقفا تصل إلى أصابع قدميه، وصدّق على ذلك بعض أهل القرية وذكر أنه كان سابقا ورد عليه. فبتنا فيها تلك الليلة وأصبحنا يوم الاثنين، وهو اليوم الرابع عشر (من الرحلة) بلا شك ولا مين، فركبنا وسرنا بالعز والفخار، حتى مررنا على قرية عيثا، بفتح العين وسكون الياء وفتح المثلثة مقصورا، فتفرجنا فيها على مطابخ الفخار. ثم مررنا على عين ينطا، بفتح الياء التحتية وسكون النون والطاء المهملة المفتوحة وبعدها ألف مقصورة. ثم مررنا بعد ذلك على عين تسمى ميسلون، فوقفنا عندها حصة، وشربنا من مائها العذب، وقرت بها منا العيون. ثم سرنا حتى نزلنا بقرية الديماس، فلم نجد فيها أحدا يقال عنه أنه من الناس، وكان هناك حر شديد، فكأننا حقيقة في الديماس. ثم سرنا فمررنا في الطريق على قرية دير مقرن، بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء مشددة وفي آخره نون، فزرنا فيها الشيخ هلال، ودعونا الله تعالى أن كل صعب يهون. فلم نزل سائرين إلى أن وصلنا قرية عين الفيجة، وأكثرنا على العين تنزها وعلى القلب تفريجة، وفي ذلك نقول، وقد نفضنا كواهلنا من وعثاء السفر وأمضينا الدخول. ثم بتنا تلك الليلة في القرية المذكورة، وأصبحنا نرتقي معارج السرور طوره، وهو يوم الثلاثاء اليوم الخامس عشر (من الرحلة)، وتمت به رحلتنا ومنها عرفنا الكمال انتشر، فركبنا وخرجنا نزور في تلك القرية قبرا، يقال أنه قبر بنات نميس، بضم النون وفتح الميم وسكون الياء، وهو ابن شيت النبي عليه السلام ذي الفطانة والكيس، بفتح الكاف وسكون الياء. ثم سرنا حتى وصلنا إلى صالحية دمشق الشام، وقصدنا مزار الشيخ يوسف والشيخ محمود محط رجال الجلال والإكرام، فنزلنا هناك وجلسنا حصة من الزمان، مع من كان معنا من الإخوان. ثم ركبنا فزرنا حضرة الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي قدس الله روحه ونور ضريحه. ثم سرنا حتى ختمنا ذلك بزيارة حضرة الشيخ أرسلان، عليه الرحمة والغفران، ودعونا الله تعالى لجميع إخواننا الحاضرين والغائبين بطرق العموم وطريق الخصوص في كل إنسان. ثم ختمنا هذه الرحلة المباركة والسفر الميمون، الذي مشينا فيه إن شاء الله تعالى أجنحة الملائكة، بزيارتنا آخانا في الله تعالى الجناب الكبير والمقام الخطير، حضرة إبراهيم آغا أعزه الله تعالى في الدنيا والآخرة، وألبسه حلة القبول في الدارين، وألزمه من الإقبال بالسيرة الفاخرة، ودعونا الله تعالى عنده له وللحاضرين والغائبين، من جميع الأصحاب والمحبين. وذلك سنة مائة وألف من الهجرة النبوية، على فاعلها أكمل صلاة وأشرف تحية. قال المصنف: وقد فرغنا من التحرير بمعونة الرب القدير، ليلة الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة مائة وألف، بالخير والحمد لله رب العالمين)).
ثم مررنا بقرية ثعلباية، بفتح الثاء المثلثة وسكون العين وفتح اللام بعدها باء موحدة وألف ثم ياء تحتية وهاء، فنزلنا وزرنا فيها قبر الشيخ عبد الله العجمي رحمه الله تعالى، ودعونا الله تعالى عنده، وحصل لنا كمال الأجور.. ثم سرنا إلى جهة القرية المشهورة بقب إلياس، ولعل الصواب في ذلك قبر إلياس، وأنه من تحريفات العوام، وهو قبر النبي إلياس عليه الصلاة والسلام، قال في القاموس: بقاع كلب موضع قرب دمشق به قبر إلياس عليه الصلاة والسلام. انتهى. ولعل تلك القرية كان اسمها بقاع كلب في الزمان الماضي، ويؤيده ما أخبرنا به بعض أهلها أن هناك مكانا يسمى رجل كلب، بكسر الراء وسكون الجيم، وكلب اسم قبيلة من العرب كانوا ينزلون في تلك القرية فسميت بهم، ثم أقبلنا على قبر إلياس عليه الصلاة والسلام.. ثم دخلنا القرية المذكورة، وخرج للقائنا أهلها بقلوب صافية مسرورة، وكان ممن خرج فتلقانا بصدره الرحيب، وحسن طلعته وجمال بشاشته فجلى علينا وجه الحبيب، محبنا وصديقنا مفخر الأعيان، ومعدن كمالات الإنسان، خدا وردي شربجي ابن الراعي حفظه الله تعالى، وكان سردار العسكر المحافظين في البقاع العزيز، وخرجت معه جماعة كثيرة جعلهم الله تعالى من العناية في حرز حريز، وقد جاءنا في ذلك اليوم من دمشق الشام، من حضرة أخينا شقيقنا العلامة الشيخ يوسف النابلسي فيه البشارة لنا بمولود غلام، فبنينا على ذلك الأساس، وأكملنا قصيدة في مدح نبي الله إلياس، واتفق لنا في هذه القصيدة تاريخ المولود، جعله الله تعالى بالخيرات مسعود.. وقد ورد علينا إلى قبر إلياس عليه السلام في ذلك اليوم رجل من أقاربنا وهو من الصالحين اسمه الشيخ مسعود، فتفاءلنا باسمه المبارك فيما جاءنا من المولود، وكان معه كديش عليه قتب، وهو راكب على ذلك وصابر على مشقته والصبر مرتبة من الرتب، وقد أذن له صاحبه من قرية بر إلياس أن يزور عليه قبر النبي نوح عليه السلام فقط، فدار به معنا جميع زيارات البقاع فلعله بذلك للأجور التقط، وكان يصعد به إلى الجبال وينزل به في الوهاد، وهو محلول الحزام وراكبه محفوظ من السقوط ببركة السادة الأمجاد. وقد توافق هذا الكديش مع ذلك الحمار، في أن كل واحد منهما مأخوذ من غير إذن صاحبه ولهذا أكثرنا عنه الإخبار، وبلغنا عن صاحب الحمار أنه كان يعاتب حماره على تقصيره في السير، ويعده أن يأخذه إلى قرية بيت سحم للنشاط والسير، حتى إننا لم نسمع له في تلك الليلة صوت نهاق.. وبلغنا أيضا أن ذلك الحمار حرد على صاحبه ورمى بمخلات العليق، وقصد الدجاجة ليأكلها بالحياة من فرط ما صار عنده من الضيق.. وكان معنا أحمدان لطيفان، أحدهما في دمشق الشام رئيس الأذان، والآخر يطعم من طرائفه الأفواه ويتحف بلطائفه الآذان.. ثم بتنا تلك الليلة في القرية المذبورة، وأصبحنا يوم الأربعاء وهو اليوم التاسع من تاريخ هذه الرحلة المسطورة، وقد وجدنا في قرية قبر إلياس المذكورة، قلعة متينة من بناء ابن معن الذي كان أمير الدروز سابقا وله سيرة غير مشكورة، وخارج القلعة برج خراب، وفيه بئر ماء مردوم بالتراب، وباب القلعة تجاه ذلك البئر المهدوم، وهو باب من الخشب المتين لا يعمل فيه الفأس ولا القدوم، وداخل الباب دهليز طويل، جميعه مبني بالأحجار الكبار والقبو الذي ما إليه سبيل، وعلى يمنة الداخل حجرة كبيرة ذات مرامي متينة، وفيها درج إلى سطح القلعة وبئر ماء غير معينة، ثم في نهاية ذلك الدهليز باب للقلعة ثاني، وداخله دهليز صغير ينتفع فيه القاصد والمعاني، ثم بعد ذلك باب ثالث يدخل منه إلى تلك الساحة، في وسط القلعة وهي واسعة المساحة، وفي وسطها بئر يجتمع فيه الماء من الأمطار التي تنزل من أعالي الأسطحة، وهو بئر كبير أوسع من قدر نصف الساحة، له فما منفتحان للانتفاع والمصلحة، وفي تلك الساحة إيوان واسع كبير، في كل ناحية من نواحيه فجوة ذات شباكين ما لهما من نظير، وفيهما مطبخان كبيران، مبنيان بالأحجار من الصوان، وبالقرب منهما بيتان لما يحتاج إليه من آلات الطبخ معدان، وهناك فرن وحمام صغير، وثلاث حجرات شرقية كبار ذات شبابيك شرقية كلها معمولة بالقبر والتحجير، والجهة الشرقية مشتملة على أربع حجرات، وعلى ميمنة الإيوان باب فيه عشرون من الدرجات، وعلى ميسرة هذا الدرج حجرة مظلمة ليس فيها شبابيك غير مرماة واحدة، وداخلها دهليز فيه سبعة مرامي نافدة، وعلى ميسرة هذا الدهليز حجرة كبيرة، فيها شباكان مطلان على ساحة القلعة الخطيرة، وأيضا حجرة مطلة على تلك الساحة المستديرة، وعلى ميمنة الدرج المذكور إيوان كبير، وفيه مرامي وشبابيك يتمتع بها كل بصير، وخارجه حجرة فيها شبابيك ومرامي، وباب يتوصل منه بدرج إلى سطح القلعة السامي، وفيها أيضا باب بعشرين دركة في أعلاه بيت للطهارة مع دهليز ثاني، به مرامي أتقنها الباني، وفي ميسرة ذلك الدهليز حجرة شمالية، فيها منافع شرعية، وفيها ثلاثة شبابيك مطلة على أماكن عليّة، ثم بعد ذلك حجرة بشباكين مطلين على الساحة المذبورة، وأيضا حجرة شتوية صغيرة، وأيضا درجان على الميسرة يصعد منها إلى السطح، كل واحد منهما خمسة عشر درجة، وسبع مرامي على أسطحة الحجرات مندرجة، وفي كل حجرة من الحجرات المذكورة وجاق مبني من الحجارة، وهناك حجرات شمالي القلعة قد شرع في بنائها وما تمت لها العمارة، وفي تلك الأسطحة ميازيب من الحجر إلى جهة ساحة القلعة، وأيضا مقدار الأربعين درجة إلى أسفل تلك الساحة ذات الوسعة، وفي أثناء الدرج بيت للطهارة، ودرج آخر على يمنته ثمانية حجرات كل ذلك مصنوع من الحجارة، وبالجملة فهي قلعة مشتملة على منافع كثيرة، وأمور تدعو إليها الضرورة..
ثم بتنا أيضا بتلك القرية، فلما أصبحنا يوم الخميس وهو اليوم العاشر بلا مرية، توجهنا للزيارات التي في جبل لبنان، بمعونة الكريم المنان.. ثم إننا مررنا على حسب مقتضى الداعي، بقبر وجدناه هناك يقال أنه قبر شيبان الراعي، فوقفنا عنده، ودونا الله تعالى أن يديم إحسانه ورفده. ثم مررنا بقبر نبي الله داود عليه السلام، وهو قبر طويل ليس عليه بنيان، وقيل لنا هذا قبره والله أعلم بحقيقة ذلك الكلام، والمشهور أن قبره في بيت المقدس، فوقفنا عنده ودعونا الله تعالى بقلب في زيارته متأنس، قال الهروي في الزيارات: بيت لحم بلدة بها مولد عيسى، ويقال أن لداود وسليمان عليهما السلام قبران فيه. انتهى. ومررنا بالقرب من عين الصالحين، ورجونا من الله تعالى أن يجيبنا فيما دعوناه ببركة من يرد عليها من عباده السائحين. ثم توجهنا إلى جهة عين العابد، وهي عين مباركة في أعلى جبل لبنان يأوي إليها الراكع والساجد.. وقد مررنا في ذلك الطريق، على عين تسمى عين المضيق، ومررنا بذلك السهل الممتنع من اتساعه على الرفيق.. ونظرنا إلى جبل لبنان، فرأيناه جبلا عظيم القدر والشأن، يشتمل على مياه جارية، وأشجار من جميع الألوان مرتفعة عالية، وثمار مختلفة، وأزهار مؤتلفة وغير مؤتلفة، وعرائش من الأعناب، وأمور تتحير فيها أولو الألباب، حتى إنا وجدنا فيه شجرة من السنديان كبيرة، حاملة حجرا عظيما لم تر العيون نظيره، وقد اقتلعته من الأرض فهو بها ملتصق وملتحم، وهي تحيط به وعليه تحكم، وأخبرنا هناك بعض الناس، أن الذئب لا يعدو على الشاة في ذلك الجبل المبارك وليس له على الحيوان اعتساس، ولم ينهق في ذلك المكان، الحمار المذكور سابقا لعدم وجود الشيطان. ثم توجهنا بعد ذلك، بمعونة القدير المالك، إلى ذوق التركمان المشهور بذوق البصلية، وقد دعونا إلى ضيافتهم فأجبناهم بنفس مرضية، فوصلنا إليهم عشية، وقد ضربوا لنا قبة مستديرة معمولة من اللبابيد التركية، فبتنا عندهم تلك الليلة في عيشة مرضية ..... ثم صعدنا إلى أعلى ذلك الجبل البعيد الداني، وزرنا في قلبه المبارك قبر الشيخ عبد الرحمن الرمثاني، بفتح الراء وفتح الميم والثاء المثلثة بعدها ألف ثم نون وياء للنسبة نسبة إلى قرية في البقاع تسمى رمثانية، بتشديد الياء التحتانية، وهو الشيخ القطب عبد الرحمن الرمثاني تلميذ الإمام جعفر الصادق، وكان من تلامذة تلامذته الشيخ العارف بالله تعالى قطب الدين عبد الحق بن سبعين، بينه وبينه ثلاثة شيوخ لأنه أخذ عن عبد الله البدل تلميذ صالح اللبناني تلميذ عبد العزيز الولي تلميذ عبد الرحمن الرمثاني المذكور رضي الله عنهم أجمعين. وأخبرنا بعض أهل تلك القرية أن الشيخ رُؤي في المنام فقال أنا مكي، فقالوا: يشير إلى أنه منسوب إلى قرية بين مكة والمدينة يقال لها رمثة، بفتح الراء وسكون الميم وفتح الثاء المثلثة بعدها هاء. وأخبرنا جماعة من تلك القرية وغيرها في سبب تسميته بالرمثاني أنه من ذرية الشيخ عدي بن مسافر رضي الله عنهما، وكان للشيخ عدي المذكور تلميذ وقد حبس في مصر بالقلعة فاشتد عليه الحال فنادى بالشيخ عدي، وتوجه إلى الاحتماء بسره الندي، فأخذ الشيخ سهما وضربه بالقلعة، فتلقته ابنة الملك وكانت من الصالحات بقوة وسرعة، فأخذ الشيخ عبد الرحمن المذكور سهما ورمى ثانيا، فأصاب تلك القلعة فسقط سورها، وأطلق ذلك الرجل الذي هو أسيرها، فلأجل ذلك قيل له رمثاني لأنه رمى رميا ثانيا. وعلى قبر الشيخ عبد الرحمن المذكور أباريق كثيرة من الفخار، ينذرها له من يمر عليه من أهل القرية عيثا خوفا على أحمالهم من الانكسار، ولما قدم الجماعة معنا فتشوا جميع تلك الأباريق، فلم يجدوا فيها شيئا من الماء يبل الريق، وكان معنا رجل اسمه عبد الرحمن فجاء إلى عند الشيخ الرمثاني وقال له: إن كان اسمك على اسمي فاسقني شيئا من الماء فإني عطشان، فنظر في بعض الأباريق التي عنده فوجد شيئا من الماء فشربه وذلك من لطائف الإحسان. وبلغنا أنه كان عنده بئر يوجد دائما فيه الماء فجاءت جماعة من الدروز، صادوا خنزيرا فغسلوه في ذلك الماء وشووه وأكلوه فغار منه ذلك الماء الذي كان فيه محروز، ولم يوجد بعد ذلك ماء في ذلك البئر، فحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير. وأخبرنا خطيب تلك القرية قرية كفريا أنه يجد في كثير من الأحيان، في قلب جبل لبنان، بالقرب من الشيخ عبد الرحمن، قبورا جديدة لا يعهد أنه دفن فيها إنسان، فلعلها قبور من يموت من الصالحين، الذين لهم سياحة في ذلك الجبل من الزاهدين العابدين. وأخبرنا ذلك الخطيب أيضا وكان من أهل الصلاح والدين، أنه ربما يصعد إلى ذلك الجبل جبل لبنان، فيزور ذلك المحفل المدفون فيه الشيخ عبد الرحمن، فيجد هناك جماعات من الصالحين، يكلمهم ولا يكلمونه، وينظرهم وينظرونه، وهم فيه باهتون، وعن كلامه ساكتون، ويجد لهم هيبة واحتشاما، وجلالة واحتراما، وينصرف عنهم وهم على ذلك الحال، ولا شك أنهم السادة أرباب الأحوال. وذكر لنا أيضا أن الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى المتقدم ذكره، زار حضرة الشيخ عبد الرحمن القابح في هذا المقام نشره، فقال له يا شيخ عبد الرحمن مقامك هذا عظيم، إلا أنه ليس فيه ما يشرب للمسافر والمقيم، فأخذ الشيخ إبريقين ومد يديه بهما إلى الوادي، وملأهما من الماء وجاء بهما إلى الشيخ عبد الله، فيا حسن تلك الأيادي. وذكر لنا أيضا أن الشيخ موسى الغماري، بضم الغين المعجمة وفتح الميم والراء المهملة المكسورة، المغربي رحمه الله تعالى مدفون هناك، ورأينا قبره بالقرب من قبر الشيخ عبد الرحمن فتلك الحضرة بينهما بالاشتراك، وقد توفي الشيخ موسى المذكور في سنة تسعمائة وتسعين، أو قريب من ذلك السنين. وذكر لنا أن الشيخ موسى قال في مرضه لأهل القرية التي كان بها مريضا من قرى البقاع، إن مت فادفنوني عندكم ثم إنه غلب عليه المرض فقرب من النزاع، فرأى الشيخ عبد الرحمن المذكور، ومعه جماعة من الأولياء أصحاب الحضور، فقالوا له إنك ضيفنا وإن لك عندنا مكانا وهو هذا المكان، وقد أشاروا له إلى موضع قبره الآن، فلما أفاق من ذلك فقال لهم إذا مت فادفنوني شمال البئر الذي عند قبر الشيخ عبد الرحمن، وأعطى الذين يحملونه إلى ذلك المكان دينارين من الذهب، فلما توفي غسلوه وكفنوه وحملوه إلى ذلك الجبل وقد أدركتهم الهيبة والرهب، فسمعوا قائلا يقول لا تصلوا عليه في هذا الوقت، فتملكهم الوحشة والمقت، يعني لتصلي عليه الأولياء الصالحون، وعباد الله المكرمون، ثم بعد حصة صلوا عليه، ودفنوه في القبر المشار إليه، والله أعلم بما كان ويكون، وقد وقفنا هناك ودعونا الله تعالى الذي أمره بين الكاف والنون، إنما أمره إذا أراده يقول له كن فيكون.
وقد زرنا هناك أيضا في قلب جبل لبنان، بالقرب من قبر الرمثاني المذكور قبر السيدة مريم بنت عمران، فوجدناه قبرا عظيما عليه مهابة وجلالة، طوله نحو الخمسة أذرع وهو في أشرف حاله، فوقفنا عنده ودعونا الله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين، الحاضرين معنا والغائبين، قال الهروي في الزيارات: إن في بيت المقدس وادي جهنم وفيه قبر مريم أم عيسى عليهم السلام ينزل إليه في ستة وثلاثين درجة. انتهى. وفي باب الفراديس داخل دمشق عند باب المدينة قبر بين بيوت الدخلة التي تسمى بالسادات يقال أنه قبر مريم بنت عمران، ومما يؤيد القول الأول أنها في جبل لبنان ما رأيته مذكورا في كتاب غاية الغايات في الأخبار والحكايات للشيخ أبي زكريا يحيى بن الحسن الأذدويلي المؤدي قال فيه ما ملخصه: وعن وهب بن منبه قال: وجدت في بعض الكتب أن عيسى بن مريم عليهما السلام قال لأمه يا أماه إني وجدت مما علمني ربي أن هذه الدار دار فناء وزوال ودار الآخرة هي الدار الباقية التي لا تخرب أبدا فتعالي يا أماه نأخذ من هذه الدار الفانية للدار الباقية، فانطلقا إلى جبل لبنان فكانا فيه يصومان النهار ويقومان الليل وكانا يأكلان من ورق الأشجار ويشربان من ماء العيون والأمطار، فمكثا في ذلك زمانا طويلا، ثم إن عيسى عليه السلام نزل ذات يوم من الجبل إلى بطن الوادي لكي يلتقط البقول والحشيش لإفطارهما، فهبط ملك الموت على مريم وهي معتكفة في محرابها فقال السلام عليك يا مريم الصائمة القائمة فغشي عليها من هول ذلك ثم أفاقت فقالت من أنت يا عبد الله؟ فقال أنا ملك الموت فقالت ألا تأذن لي حتى يرجع ولدي عيسى عليه السلام فأتزود منه ومن ريحه قال يا مريم لم أؤمر بذلك، فقالت سلمت لأمر الله فدنا منها وقبض روحها، فأبطأ عيسى في ذلك اليوم عن وقته ولم يأت حتى دخل وقت العشاء الآخرة، فلما أتى ظن أنها نائمة حتى مضى ثلث الليل واستقبل المحراب ولم يفطر إكراما لأمه، ثم جاء إليها فوجدها ميتة فجعل عيسى عليه السلام يبكي ويقول من لوحشتي؟ ومن لأنسي وغربتي؟ ثم نزل من الجبل إلى قرية من قرى بني إسرائيل ينادي بصوت حزين السلام عليكم يا بني إسرائيل، فخرجوا إليه حتى ذوات الخدور من خدورهن، وقالوا من أنت يا عبد الله؟ فقال أنا روح الله عيسى بن مريم، إن أمي ماتت غريبة فأعينوني على غسلها وتكفينها ودفنها، فقالوا يا روح الله إن هذا الجبل كثير الأفاعي والحياة لم يسلكه آباؤنا منذ ثلاثمائة سنة فهذا الحنوط والكفن فخذه، فولى عيسى عليه السلام راجعا ولم يأخذ شيئا، وأتى الجبل فوجد شابين جميلين فسلم عليهما فردا السلام عليه، فقال لهما إن أمي ماتت غريبة في هذا الجبل فأعيناني على غسلها ودفنها، فصعدا معه إلى الجبل فغسلها معهما وكفنها وشق في الجبل شقا وجعل رأسها مما يلي القبلة التي كانوا يصلون إليها، ثم ساق بقية القصة بتمامها. وفي شرح القصيدة الهمزية الأبوصيرية للشيخ ابن حجر الهيثمي رحمه الله قال: ولما رفع عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء بقيت أمه بعد ذلك خمسا أو ستا كما قاله الجلال الأسيوطي، وقال أيضا لما رفع عيسى إلى السماء تعلقت به أمه وبكت فقال لها إن القيامة تجمعنا. انتهى كلامه. وهذا يناقض ما ذكرناه عن وهب بن منبه من القصة المذكورة، ويمكن التوفيق بينهما بأن عيسى عليه السلام رفع روحا وجسما كما هو الظاهر من الأخبار وبقيت أنه بعد رفعه تلك المدة المسطورة، وكان يجتمع معها في جبل لبنان بروحانيته فقط المتشكلة بصورة الجسمان كما هو المشهور من أحوال الأبدال في هذه الأمة المحمدية، والقصة محمولة على هذا الاجتماع الروحاني في هذه القضية، وقوله لها لما تعلقت به وبكت إن القيامة تجمعنا، يعني بالاجتماع الروحاني والجسماني مثل حالة الرفع فلا شيء يمنعنا، وأيضا ليس في الكلام حصرية يقتضي أن لا تجمعنا إلا القيامة. فيكون الظاهر من هذا كله أن قبرها هو الذي زرناه في جبل لبنان، والتمسنا منه البركة واللطف والإحسان.
ثم نزلنا من جبل لبنان، إلى وادي الجوز في أسفل الجبل مع الأصحاب والإخوان، وجلسنا هناك على عين ماء صافية، وظلال من الصخر باردة صافية، وكان معنا الهمام الكبير، صاحب القدر الخطير، ريحانة السرور، عيسى شربجي المشهور بابن حيمور.. ثم صلينا الظهر في ذلك الوادي، وذهبنا إلى حضرة سيدي الشيخ مسافر رضي الله عنه في قرية تسمى بيت فار عند الرائح والغادي، ولعل تسمية تلك القرية بذلك لأنها في جبل لبنان، وكان التنور قد فار منها في طوفان نوح عليه السلام في ذلك الزمان، قال الهروي في زياراته عند ذكره دمشق الشام: وقيل هي كانت دار نوح عليه السلام، وقيل التنور فار من جبل لبنان، والله أعلم. انتهى. فوقفنا في حضرة الشيخ مسافر رضي الله عنه عند باب قبته المرتفعة، وكانت البناؤون في ذلك الوقت يبيضونها بالجص وعندها الناس مجتمعة، فقرأنا الفاتحة ودعونا الله تعالى في السر والإعلان، للحاضرين والغائبين من الإخوان، وقد ذكر لنا أن الغنم والمعز إذا أصابها شيء من الأمراض، يأتون به إلى ضريحه الشريف ذي النور الفياض، ويديرونها حول ذلك الضريح من الخارج، فإنها تبرأ بإذن الله تعالى من غير معالج، والتي تقف قبالة الباب، تكون للشيخ رضي الله عنه نذرا ينتفع به الخدام والأحباب، وقد زرنا في تلك القرية الشيخ محمد المصمودي رضي الله عنه ودعونا الله تعالى عنده، ووالى علينا الله تعالى إنعامه ورفده، وقد زرنا في تلك القرية أيضا مغارة الشيخ مسافر المذكور، فحصل لنا كمال المسرة والحضور.. ثم ذهبنا إلى جهة جب جينين، فزرنا في الطريق قبر العباس ابن مرداس الصحابي ذي الهدى والدين، ووقفنا عنده ساعة من الحين، ودعونا الله تعالى لإخواننا الحاضرين والغائبين، ثم بتنا في القرية المذكورة تلك الليلة، فلما أصبحنا يوم الأحد وهو اليوم الثالث عشر وقد تفيأنا ظله ومقيله، زرنا في تلك القرية الشيخ إبراهيم من مشايخ الطريقة الدسوقية، والسيدة آيسة وأخيها الشيخ محمد وبقية تلك القبور النورانية، وذهبنا إلى زاوية الأشراف خارج تلك القرية، فعمل لنا مديحا صاحب تلك الزاوية أبيات وهو رجل من الصالحين بلا مرية، واسمه كمال الدين، وفي دينه كمال الدين، وأبياته هذه تدل على صلاحه، فأبقيناها على ما هي عليه تبركا به وقلنا صلاحه لها عين إصلاحه.. ثم سرنا فمررنا في الطرق على قرية تسمى كامد اللوز، وزرنا هناك قبرا يقال أنه قبر عبد الله بن مسعود ويقال أن اسمه الشيخ مجاهد وعلى كل حال فهو من أهل الصلاح والفوز، فوقفنا هناك ودعونا الله تعالى بما شاء الله من الأدعية سرا وجهرا، وزرنا قريبا منه أيضا قبر الشيخ يونس التغلبي عليه رحمة من الله تعالى تترا، ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى عين تسمى عين عزة، بفتح العين المهملة، فوقفنا هناك نشرب ونسقي الدواب بنفوس إلى المسير مستقرة، فبينما نحن كذلك إذ قدم علينا في ذلك المحل رجل من الأشراف الأعزة، فسلم علينا وسألناه عن اسمه فقال السيد أحمد، من آل عز الدين فتفاءلنا بهذا الفأل الأحمد، ثم إنه دعا لنا فقال من جملة دعائه زاد الله معناكم معنى، وهذا الذي حفظناه من عباراته بلفظه الأسنى. ثم سرنا حتى صعدنا إلى حضرة مولاي يعقوب المنصوري عليه الرحمة والرضوان، وهو في جبل عال وهناك قرية وجدنا فيها جماعة من الإخوان، فزرنا ضريحه المبارك، ودعونا عنده الله تعالى وتبارك، وقلنا في تلك الزيارة، مشيرين إلى ما في ضمن تلك النسبة الشريفة من الإشارة.. ثم جلسنا في تلك القرية تحت شجرة كبيرة من السنديان، منسوبة إلى الشيخ يعقوب المذكور عليه الرحمة والرضوان، وغلظها مقدار ثلاثين شبرا، وهو قدر الشجرة التي وجدناها عند نبي الله زريق الذي قدمنا له ذكرا، فمكثنا عند تلك الشجرة وقد صلينا الظهر، فأنشدنا بعض الحاضرين أبياتا منسوبة إلى الولي العارف بالله الشيخ إبراهيم الدسوقي المصري، قدس الله روحه ووالى عليه أنواع الطهر، وقد أنشدها متغيرة اللفظ والمعنى، ملحونة الوزن والمبنى، ثم طلب منا تخميسها في ذلك المكان، فأصلحناها على حسب القانون الشعري ومقتضى الميزان، ثم خمّسناها على البديهة بمقتضى فتح الكريم الرحمن.. ثم أنشد هذا التخميس في حضرة الشيخ يعقوب رحمه الله تعالى بالألحان، فحصل للحاضرين في تلك الحضرة كمال الخشوع والإذعان.
ثم إنا دعونا الله تعالى هناك وخرجنا من تلك القرية نريد الذهاب إلى قرية حمَّارة، بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم، فوصلنا إليها قبيل المغرب وقد أنزلنا فيها بعض المحبين داره، وأحسن لنا الضيافة، وأكرم مثوانا وزاد إتحافه، وقد أخبرنا رجل في هذه القرية المذكورة، أنه رأى ببلاد حمص رجلا طويل اللحية جدا وقد صار بها غريب الصورة، حتى إن لحيته إذا كان واقفا تصل إلى أصابع قدميه، وصدّق على ذلك بعض أهل القرية وذكر أنه كان سابقا ورد عليه. فبتنا فيها تلك الليلة وأصبحنا يوم الاثنين، وهو اليوم الرابع عشر (من الرحلة) بلا شك ولا مين، فركبنا وسرنا بالعز والفخار، حتى مررنا على قرية عيثا، بفتح العين وسكون الياء وفتح المثلثة مقصورا، فتفرجنا فيها على مطابخ الفخار. ثم مررنا على عين ينطا، بفتح الياء التحتية وسكون النون والطاء المهملة المفتوحة وبعدها ألف مقصورة. ثم مررنا بعد ذلك على عين تسمى ميسلون، فوقفنا عندها حصة، وشربنا من مائها العذب، وقرت بها منا العيون. ثم سرنا حتى نزلنا بقرية الديماس، فلم نجد فيها أحدا يقال عنه أنه من الناس، وكان هناك حر شديد، فكأننا حقيقة في الديماس. ثم سرنا فمررنا في الطريق على قرية دير مقرن، بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء مشددة وفي آخره نون، فزرنا فيها الشيخ هلال، ودعونا الله تعالى أن كل صعب يهون. فلم نزل سائرين إلى أن وصلنا قرية عين الفيجة، وأكثرنا على العين تنزها وعلى القلب تفريجة، وفي ذلك نقول، وقد نفضنا كواهلنا من وعثاء السفر وأمضينا الدخول. ثم بتنا تلك الليلة في القرية المذكورة، وأصبحنا نرتقي معارج السرور طوره، وهو يوم الثلاثاء اليوم الخامس عشر (من الرحلة)، وتمت به رحلتنا ومنها عرفنا الكمال انتشر، فركبنا وخرجنا نزور في تلك القرية قبرا، يقال أنه قبر بنات نميس، بضم النون وفتح الميم وسكون الياء، وهو ابن شيت النبي عليه السلام ذي الفطانة والكيس، بفتح الكاف وسكون الياء. ثم سرنا حتى وصلنا إلى صالحية دمشق الشام، وقصدنا مزار الشيخ يوسف والشيخ محمود محط رجال الجلال والإكرام، فنزلنا هناك وجلسنا حصة من الزمان، مع من كان معنا من الإخوان. ثم ركبنا فزرنا حضرة الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي قدس الله روحه ونور ضريحه. ثم سرنا حتى ختمنا ذلك بزيارة حضرة الشيخ أرسلان، عليه الرحمة والغفران، ودعونا الله تعالى لجميع إخواننا الحاضرين والغائبين بطرق العموم وطريق الخصوص في كل إنسان. ثم ختمنا هذه الرحلة المباركة والسفر الميمون، الذي مشينا فيه إن شاء الله تعالى أجنحة الملائكة، بزيارتنا آخانا في الله تعالى الجناب الكبير والمقام الخطير، حضرة إبراهيم آغا أعزه الله تعالى في الدنيا والآخرة، وألبسه حلة القبول في الدارين، وألزمه من الإقبال بالسيرة الفاخرة، ودعونا الله تعالى عنده له وللحاضرين والغائبين، من جميع الأصحاب والمحبين. وذلك سنة مائة وألف من الهجرة النبوية، على فاعلها أكمل صلاة وأشرف تحية. قال المصنف: وقد فرغنا من التحرير بمعونة الرب القدير، ليلة الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة مائة وألف، بالخير والحمد لله رب العالمين)).
تعليقات
إرسال تعليق