ثم سرنا منها على بركة الله تعالى من غير مرية، وكان ذلك اليوم هو اليوم الرابع وهو يوم الجمعة، فنزلنا في الطريق بروضة النبي شيت عليه السلام، وهي روضة غناء ذات أنهار وأشجار، فتفيأنا ساحة الكرام، ونزلنا للاستراحة والتبرك بهاتيك البركات العظام.
ثم ركبنا وسرنا بين مياه ورياض، وأزهار وغياض، وجبال وصخور، وحصى كأنها قلائد النحور، إلى أن وصلنا قرية نبي الله شيت عليه السلام، وكان ذلك قبيل الظهر، وليس في تلك القرية منبر ولا خطيب ولا إمام، فخالفنا أهلها وصلينا الصلوات بالجماعة على وجه الإجلال والإكرام، ورأينا مسجدا فيه محراب، اشتقوا له من اسمه فحاربوه، وقد سمعناهم يسمونه التكية، وفيه قنديل معلق بالجهة الشرقية، على خلاف المعتاد في القضية، إلا أنا وجدنا فيها شيخا من أهلها عنده احتفال بمن يرد عليه وإكرام، وقد تقيد بنا وانطلق معنا فيما توجهنا إليه من المرام، وقد زرنا قبر نبي الله شيت عليه أبلغ التحية والإنعام، فرأيناه قبرا عظيما عليه مهابة وجلال واحتشام، ومقدار طول ذلك القبر نحو الأربعين ذراعا، وعرضه يبلغ باعا وباعا، فوقفنا عنده ودعونا الله تعالى بأنواع الدعاء، وصلينا هناك ما تيسر لنا وامتلأ بالأجور منا الدعاء. وقد ذكر الشيخ الإمام علي بن أبي بكر الهروي رحمه الله تعالى في كتابه الزيارات بعد ذكر الكرك التي هي من أعمال البقاع التي بها قبر نوح عليه السلام فقال: وقبر شيت بن نوح، وقيل قبر شيت بجبل أبي قبيس، والصحيح أن الذي بأبي قبيس هو قبر شيت بن آدم والله أعلم. ثم في زيارات الحجاز جبل أبي قبيس قال: وقيل قبر شيت في جبل أبي قبيس والله أعلم. وذكر في أول كتابه المذكور فقال: وأنا أستعيذ بالله من شر حاسد ومن نكد معاند، يقف على ذكر بعض الصحابة والتابعين وآل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى ذكر بعض الآثار فيقول قرينا في التاريخ الفلاني ضد ذلك، وذكر فلان غير هذا، وأنا فما أشك في قوله ولا أطعن في حديثه، إلا أني ذكرت ما شاع خبره وذاع ذكره بطريق الاستفاضة والله أعلم. وقد ذكر بعض أصحاب التواريخ جماعة من آل الرسول عليهم السلام ومن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم قتلوا وماتوا ببلاد الشام والعراق وخراسان والمغرب واليمن وجزائر البحار، ولم أر في أكثر هذه الأماكن ما ذكروه، ولا شك أن قبورهم اندرست وآثارهم طمست، وذهبت آثارها وبقيت أخبارها، والزائر له صدق نيته وصحة عقيدته، وقد ذكروا أيضا بلادا وأماكن وطرقات لا تعرف الآن، لتقادم العهد وتغير الزمان، انتهى كلامه. ولا شك أن قبور الأنبياء عليهم السلام من هذا القبيل، بل بالأولى والأحرى لتقدمهم على ما ذكر بكثير لا بقليل، فلا قطع بتعيين قبر نبي أصلا إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مدفون بالمدينة المنورة على طريق التواتر والعلم الذي لا شك فيه استفاضة ونقلا، فالزائر لقبر نبي من أنبياء الله عليهم السلام محصل للبركة بالاستعمال على حسب صدق نيته في الزيارة، والله أعلم بحقيقة الحال. وهناك عند رأس قبر شيت قبة عجيبة على أربعة أركان، مبلط أرضها بالأحجار وهي متقنة غاية الإتقان، وفي وسطها صهريج محكم من الأحجار غاية الإحكام، يجتمع إليه الماء من سطح النبي شيت عليه السلام، وفم الصهريج مجعول كالفسقية، وهو في مكان مرتفع مطل على تلك البرِّية. وكانت ليلتنا بالنبي شيت عليه السلام ليلة برغوثية، وذلك الجامع الذي بتنا فيه بل تلك التكية، كانت علينا بالحر محمية، وكان معنا حمار لبعض الأصحاب كثير النهاق، فوضعه تلك الليلة في ثلاثة بيوت وصوته المرعاد المبراق، صوت قوي لا يكاد يطاق. وكان ذلك الحمار لرجل من أهالي دمشق الشام اسمه فتح الله، فأخذه ابنه منه بلا إذنه وجاء معنا على فتح الله.
ثم لما أصبحنا في اليوم الخامس وهو يوم السبت المبارك، ركبنا وركب معنا شيخ قرية النبي شيت ونحن معه في المسير نتشارك، فتوجهنا نحو قرية الكرك لزيارة نبي الله نوح عليه السلام، وإذا برجل يركض خلفنا بجواده مطلق العنان واللجام، ومعه مكتوب من حضرة الباشا الأجل، والصدر الذي من بالغ في كمالاته فقد أخل، وهو مقبل من بعلبك المحروسة، يدعونا إلى زيارة الشيخ عبد الله اليونيني والتملي بحضرته المأنوسة، فوقفنا في ذلك الطريق، وتوقفنا عن المسير ساعة ثم انفرج ذلك الطريق، وأجمعنا على إجابة ما دعينا إليه، وقرأنا الفاتحة إلى نوح صلوات الله وسلامه عليه، وتوجهنا إلى بلدة بعلبك بالخير، نتسارع في تلك الصحراء تسارع الطير. والكرَك هنا بالتحريك على ما هو مشهور بين العامة، وهو كرك نوح عليه السلام، قال الشيخ الإمام ياقوت الحموي في كتابه المشترك: الكرك بفتح الكاف وفتح الراء وكاف موضعان، فالكرك قلعة مشهورة حصينة في طريق البلقاء من أرض الشام من ناحية جبال الشراة، يُنسب إليها أحمد بن طارق القرشي أبو الرضى من طلاب الحديث المكثرين، مات في بغداد في ذي الحجة من سنة اثنين وتسعين وخمسمائة. والكرك أيضا قرية كبيرة من نواحي بعلبك، بها قبر طويل تزعم أهل تلك الناحية أنه قبر نوح عليه السلام. انتهى. ووجدنا في هامش الكتاب المذكور بخط العلامة الشيخ أحمد المعروف بابن مكتوم النحوي، وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، قال عند ذكر أحمد بن طارق ما نصه: ذكر ابن نقطة في باب الكرْك بسكون الراء فقال قال أبو طاهر إسماعيل بن الأنماطي الحافظ بدمشق: هو منسوب إلى قرية في أصل جبل لبنان يقال لها الكرْك بسكون الراء، وليس هو من القلعة التي يقال لها الكرَك بفتح الراء، قال ابن نقطة: وكان ثقة متقنا لما يكتبه خبيث الاعتقاد. وقال ابن النجار في التاريخ: أخبرني أبو الحسن ابن القطيعي قال: سألت أبا الرضى بن طارق عن نسبة الكرك فقال: بالشام ثلاثة مواضع كل واحد منها يسمى الكرك، فأحدها عند الشوبك بأرض فلسطين، وموضع عند طبرية، وموضع بالبقاع بين بعلبك ودمشق، ونحن من هذا الموضع وكان جدي سنان قاضيا به فهاجر إلى بغداد وقطن هناك. انتهى. وقال في القاموس: وكرك بالفتح قرية بخلف جبل لبنان، وبالتحريك قلعة بنواحي البلقاء. انتهى. فعلى هذا يكون كرك نوح بفتح الكاف وسكون الراء، وكرك الشوبك بفتح الكاف وفتح الراء كما وقع في عبارة ابن أم مكتوم عن ابن نقطة وهو الذي فيه القلعة بنواحي البلقاء لأنه قائل في القاموس بالفتح. ثم إننا مررنا في الطريق بأشجار العنب لنبي الله شيت عليه السلام بما تسميه العامة كرما، وقد ورد في الحديث النهي عن تسمية العنب كرما، ولهذا عدلنا عنه في الكلام. ومررنا على وادي بَلِيتار في طريقنا إلى بعلبك، وبليتار قرية من قرى بعلبك، بفتح الباء الموحدة وكسر اللام.
ثم لم نزل كذلك إلى أن وصلنا إلى تلك البلاد، وارتوت منا بمياهها العذبة حرارة الأكباد، فابتدأنا في أول وهلة بزيارة الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى، وهي نسبة إلى يونين قرية من قرى بعلبك، وكان أصل الشيخ عبد الله رضي الله عنه منها، كما ذكر في كتاب مناقب الشيخ قدس الله سره وفي كتاب الذيل على كتاب الروضتين في أخبار الدولتين كلاهما للشيخ شامة رحمه الله تعالى، وسمعنا من أهل تلك البلاد أن القرية اسمها يونين، وأفادنا بعض أهلها أنه رأى في كتب الأوقاف القديمة المؤرخة بالمائة الخامسة والسادسة اليونيني، والقرية اسمها الآن حتى في الدفاتر السلطانية يونين. انتهى كلامه. وقال ياقوت الحموي في كتاب المشترك: يونان موضعان، بضم الياء وسكون الواو ونونين بينهما ألف، يونان موضع بُرّان بضم أوله وتشديد ثانيه منه إلى برزغة سبعة فراسخ، ويونان من قرى بعلبك. وقال في القاموس: ويونان بالضم قرية من قرى بعلبك. انتهى. فلعل القرية يقال لها يونين كما يقال لها يونان أو أن ذلك من استعمال البعليين وتحريفاتهم فإن ألسنتهم إلى الإمالة أميل كما أفادنا بذلك بعض أهلها فكان من جملة لطائفه أو أن ذلك من تغير النسب، فإن اللحن المشهور في ذلك خير من الصواب الغير مشهور، لأن المقصود من النسبة التعريف وهو حاصل باللحن، فالصواب إعجام في الكلام... وفي كتاب مناقب الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى أن عمره جاوز ثلاثا وثمانين سنة، وتوفي يوم السبت في عشر ذي الحجة سنة سبع عشر وستمائة، وكانت وفاته غريبة، وذلك أنه نزل يوم الجمعة يصلي بجامع بعلبك وهو صحيح البدن ليس به ألم، وكان دخل الحمام قبل الصلاة ثم أتى الجامع فرأى داود المؤذن وكان يغسل الموتى، فقال له: ويحك يا داود انظر كيف تكون غدا، فلم يفهم الإشارة وقال: يا سيدي كلنا غدا في غفارتك، ثم صعد الشيخ إلى الراوية وكان صائما، وقد أمر الفقراء أن يقطعوا صخرة عند اللوزة التي كان ينام تحتها ويجلس عندها، وكان بقي منها قدر نصف ذراع فقال لهم: لا تطلع الشمس غدا إلا وقد فرغتم منها، وبات طول ليلته يدعو الإضحاء حتى طلع الفجر، فصلى بجماعته وجلس على صخرة كان يجلس عليها، واستقبل القبلة قاعدا وبيده سبحة، وقام الفقراء يتممون قطع تلك الصخرة حتى فرغوا وقد طلعت الشمس وهم يظنونه نائما والسبحة في يده على حالها، ثم حضر إليه خادم من القلعة فظنه نائما فحركه فوجده ميتا رضي الله عنه، فارتفع الصباح والصراخ حتى حضر الملك الأمجد، فأراد أن يبني عليه بنيانا وهو على حاله ذلك، فقالوا له: اتباع السنة أولى، ثم جهزوه وغسله داود المذكور الذي قال له الشيخ: يا داود انظر كيف تكون غدا، ودفن عند الصخرة التي قطعها الفقراء تحت اللوزة رحمه الله تعالى، ثم دفن حوله من الأبدال والأولياء خلق كثير. انتهى ما نقلناه من كتاب المناقب ملخصا. ثم إننا توجهنا إلى الدخول في بلدة بعلبك المعمورة، لأجل تتميم الزيارة لمزاراتها المشهورة، فخرج إلى لقائنا صدر الصدور، ومفخر أرباب الورود والصدور، حافظ تلك البلاد حضرة محمد الباشا حفظه الله تعالى بجماعته وخدمه وعسكره وحشمه، واجتمعنا به في خارج البلاد على أحسن حالة، ثم رجع معنا فدخلنا من الباب بأكبر هيبة وجلالة، وقرأنا الفاتحة بالقرب من باب المدينة من جهة الخارج لروح الشيخ عبد الرزاق ابن الشيخ العارف الرباني عبد القادر الجيلاني، قدس الله روحه ونور ضريحه، فإن مزاره هناك، وله إلى ذلك الطريق باب وشباك، ثم ذهبنا معه إلى دار الإمارة، فتلقانا بالإجلال والإكرام وذلك على كمال محبته لنا أمارة، ونزلنا في بيت بعض الأصدقاء والأحباب، وكنا نجتمع في غالب الأوقات، على نهاية الانبساط والاقتراب، من المنادمة والمسامرة، من النهر وإلى ما بعد العشاء الآخرة، ثم أمر بإخراج الخيمة العظيمة ذات النقوش المختلفة، لأجل الاجتماع والمؤانسة وانشراح النفوس المؤتلفة، فضربت تلك الخيمة لنا في ذلك المرج الأخضر، والروض الأزهى الأزهر، عند المكان المسمى برأس العين، فانشرح الصدر وقرت العين، وترقرقت هاتيك المياه اللطيفة، وانسابت في ذلك الجدول وهي بنا مطيفة.. ولفظ بعَلبك بفتح الباء وفتح العين وسكون اللام وفتح الباء الثانية وهي لغة عامية، واللغة الفصيحة بعلبك بفتح الباء وسكون العين وفتح اللام والباء الثانية.. وجلسنا بالقرب من تلك العين، التي يفترق ماؤها فرقتين، ثم يجري بالزلال البارد للصادر والوارد، وعند تلك العين ذلك المسجد المعلق المذكور، وهو الآن مكان خراب يدور به الماء من جميع جوانبه بكرة وعشية، ويقال أنه كان فيما مضى من الزمان تكية للمولوية، وبالقرب منه أيضا جامع خراب، له منارة وهو متسع الجوانب وفيه منبر منهدم ومحراب. ثم خرجنا في اليوم السادس وهو يوم الأحد إلى زيارة الشيخ عبد الله اليونيني أيضا نفعنا الله ببركاته، مع حضرة الباشا أسلمه الله تعالى وباقي جماعاته، وانشرحت صدورنا في تلك الحضرة المأنوسة، وتشعشعت أسرارنا في هاتيك المقامات المحروسة، ودعونا الله تعالى بإنجاح المقاصد والمهام، وتحقيق المراد والمرام، لجميع من كان معنا من الخاص والعام، وابتهلنا في ذلك المكان المبارك، وتوسلنا إلى الله تعالى وتبارك، أن ينصر عساكر الإسلام، وييسر أمور المسلمين، ويفتح الفتح المبين، ويمن بالإنعام التام، ويصلح أحوال إخواننا بمقتضى الإعزاز والإكرام. وقد قصدنا التفرج على قلعة بعلبك العجيبة، التي تذكر بأبراجها بالسماء ذات البروج من حسن تلك الأبنية الغريبة، فذهبنا مع حضرة الباشا حفظه الله تعالى حتى صعدنا إلى ذلك البناء الهائل، الذي هو أثر من آثار الأوائل، وقد ذكر الهروي في زياراته أن بعلبك الوادي والصخرة الهائل، وقيل: فيه أنزل وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، والصحيح أن الوادي هو وادي القرى، وقوم ثمود به كانوا. انتهى. وأخل بعلبك يسمون بالواد بالسكون موضع ذلك الحجر الكبير المسمى بحجر الحبلة الآتي ذكره، ويزعمون أن ذلك المكان كان مقطعا لتلك الأحجار الكبيرة التي بنيت منها القلعة، فإن في الآية جابوا الصخر أي قطعوا الصخر، وقال أيضا: وقلعة بعلبك من عجائب الدنيا وليس في بلاد الإسلام ما يشاكلها إلا أبنية خراب بناحية اصطخر من بلاد فارس، وتزعم أهل فارس أن الضحاك هو سليمان بن داود عليه السلام، وهذه الأبنية عمرتها الجن له والله أعلم. انتهى كلامه. وبلغنا أن الجن عمرت لسليمان عليه السلام بيت المقدس وقلعة بعلبك مع قلعتها، وهذا أمر ظاهر يشهد له الحس، فإن هذه العمارات العظيمة لا تقدر على عملها الإنس، ورأينا الذي يصدق ذلك قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأرسلنا له عين القطر، ومن الجن من بعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات) والجفان جمع جفنة وهي القصعة، والجوابي جمع جابية والجابية الحوض الكبير، فإنا رأينا تلك الأبنية الهائلة في قلعة بعلبك، وتلك المحاريب المزخرفة، والتماثيل المختلفة، والأعمدة العظام، والصخور الجسام، فقلنا: إن هذه الآية ربما أشارت إلى هذه الأبنية التي تتحير فيها الأفهام، وتشخص إليها عيون الأنام. وأول ما اشتملت عليه هذه القلعة أن عند بابها نهر يجري وفيه تدبغ الجلود، وعلى باب القلعة صخرة كبيرة هائلة قطعة من جلمود، وداخل الباب على جهة الميسرة برج عظيم، ودهليز طوله نحو مائتي ذراع معمول بالقبو المتين الجسيم، وفيه دهليز آخر على الميمنة نحو مائتي ذراع، وداخله دهليز آخر قدر الأول بلا نزاع، وبجانب الباب الثاني الذي للقلعة، برج كبير على الميسرة يحتاج الداخل إليه إيقاد الشمعة، وهناك دهليز طويل، وخارج الدهليز ساحة القلعة التي ما لها من مثيل، ويدور بتلك الساحة قناطر ومحاريب فيها تصاوير وتماثيل، وداخل القلعة إلى جهة الشمال، برج لا سقف له وليس له اشتمال، غير أن فيه درجا صغيرا ينزل منه إلى نهر هناك، وخارج القلعة من جهة الشمال قنطرة كبيرة من حجر فيه اشتباك، يجري منها الماء قديما إلى القلعة، ذات التحصين والمنعة، وفي داخل القلعة تسعة عواميد طول كل واحد منها نحو الثلاثين ذراعا وأكثر والله أعلم، مصفوفة في الهوا قريب ما بينها بمنزلة الأصابع فوق ذلك القبو المحكم، وثخانة كل عمود منها ثلاثون شبرا عرضا، وكل عمود له قاعدة تحته من الحجر المنحوتة قدر خمسة أذرع طولا وخمسة أذرع عرضا، ومن فوق هذه الأعمدة عمارة عجيبة، محكمة البناء غريبة، طول كل حجر منها خمسة أذرع في عرض خمسة، فكأن الباني أراد بها البقاء ولم يذكر يومه وأمسه، ومن جهة الشرق فوق الخندق أربعة عشر عمودا، مثل التي ذكرناها قواعد وقدودا، وفوق تلك الأعمدة عمارة عظيمة، وسقف من الحجر المنحوت كالطوان العجمي ولكنها أبنية قديمة، وفي وسط القلعة أيضا أربعة عشر عمودا كالأعمدة المذكورة، ولها قواعد من الحجارة المنحوتة، في مقدار تلك القواعد المزبورة، وحول تلك العواميد فوق القواعد قطع من النحاس كبار بمنزلة السواعد، عمل على قلعها بعض الناس، فكسروا أطراف العواميد من الأسفل وأخذوها على وجه الاختلاس، وفوق تلك العواميد في الهواء عمارة عظيمة، بأحجار كالقواعد التي في الأسفل بل أعظم منها مهندسة على هيئة مستقيمة. وأخبرني جماعة أنه مرة صعد رجل فوق تلك العمارة التي فوق العواميد فوجد هناك شاقوفا بلغ وزنه ثمانون رطلا برطل بلاد بعلبك، وهو مقدار رطل ونصف بالرطل الدمشقي، وذلك الشاقوف معمول من الحديد. ورأينا نحن قاعدة من الحجر قطعة واحدة أكثر من خمسة أذرع طولا في خمسة باعتبار العرض، كأنها كانت فوق عمود من تلك الأعمدة فوقعت على الأرض، وتحتها قبو القلعة وهو على حاله لم يتأثر من وقعها، وقد رُدم بعضها بالتراب ولكن لم يخف قدر وسعها، وفي وسط القلعة شباك من الحجر داخله برج كبير عريض طويل، يدور به من جميع جوانبه محاريب فيها صور وتماثيل، وفي داخل هذا البرج عمود فيه ثقب بدرج على شكل اللولب، يُصعد منه إلى ظهر البرج المطل على البساتين وعلى قبر الشيخ عبد الله اليونيني قدس الله سره، فكأن نور ضريحه من بعيد كوكب، وفي داخل هذا البرج سبع قاعات مظلمات، لا تتبين إلا بإيقاد الشمعات النيرات، وفي داخل تلك القاعات قبة صغيرة فيها ماء راكد، أخبرني بعض الناس أن ذلك الماء كان مرصودا أنه متى قفلت أبواب القلعة لقصد قاصد، جرى ذلك الماء وسال من سور القلعة إلى الخارج ودام جريانه للصادر والوارد، وهناك بئر يقال له بئر الصياح سده بن معن لما هدم القلعة خاصيته أنه متى حوصرت القلعة وجد فيها الماء، وكلما زاد الحصار زاد الماء، وكان مرصودا في ذلك، وفي سقف هذا البرج صور حية وعقرب فتحا فميهما، وصورة طبل وزمر على هيئة الضرب بهما، وكل ذلك من الحجر الأبيض الصلد منحوت، يظل الناظر فيه مبهوت، وكذلك في قبو الدهليز الذي يُدخل منه إلى القلعة، صور رجال ينظرون إلى الداخلين منحوت من الحجارة الصلبة ذات المنعة، وهناك برج آخر له سقف من الحجارة بيان شكل القاعة، وفي ذلك السقف قفاعة، وفي وسط ذلك البرج إيوانان تجاه كل منهما قبة لطيفة، وفي أحد هاتين القبتين درج طويل يقال أنه كان حبسا لأصحاب الأمور المخيفة، وخارج باب هذا البرج درج نحو أربعين درجة، يُصعد منه إلى أعلى ذلك البرج بمراقي منفرجة، وتحت هذا البرج برج آخر يُنزل إليه بنحو أربعين دركة، وفي أثناء هذه الدركات حجرة صغيرة من الحجارة المشتبكة، وفي ذلك البرج الأسفل إيوان وأربعة قبب، كل ذلك من الحجر الصلد المنحوت المنتخب، وفي ساحة القلعة بئر ماء كبير تتحير فيه النظار، وليس له قرار، وفي الساحة أيضا بحرة كبيرة جميعها قطعة واحدة من حجر واحد مردومة جوانبها بالتراب، ومن الجهة القبلة خارج القلعة عمود مجوف يقال أنه بمنزلة الطالع لماء القلعة لكنه الآن خراب، وفي حائط القلعة القبلي نحو أربعين حانوتا مبنية بالأحجار، يقال أنه كان سوق هناك في الزمان الأول لبضاعات التجار، وفي الحائط القبلي من سور القلعة مدماك كله ثلاثة أحجار، طول كل حجر منها خمسة وثمانون قدما وعرضه خمسة وثلاثون قدما شبر من الأشبار، وخارج السور مقبرة في جانبها حفرة كبيرة وفي داخلها قطعة واحدة طوله وعرضه بقدر حجر واحد من تلك الأحجار الثلاثة المذكورة، تسميه العامة حجر الحبلة وليس له موضع إليه من ينزل، وبجانبه صخرة كبيرة مستديرة يسمونها المغزل، وكان قديما للقلعة باب كبير من جهة الغرب، وهو الآن مسدود فليس إليها منه درب، وكان إليها باب يُخرج منه إلى الدباغة يقال أنه أصل الأبواب، وكانت عامرة مسكونة وقد رأينا هناك جماعة أدركوها كذلك قبل أن تصير خراب، وكان الذي خربها ابن معن أمير الدروز والتيامنة، بسبب ما وقع بينه وبين بني الحرفوش في بعلبك من الحروب والعداوة الكامنة، والظاهر أن خرابها متقدما كان في حدود سنة سبعة وتسعين وخمسمائة لما ذكر أبو شامة رحمه الله تعالى في ذيله على كتاب الروضتين نقلا عن تاريخ ابن المظفر سبط ابن الجوزي قال: وجاءت في شعبان يعني سنة سبع وتسعين وخمسمائة زلزلة هائلة من الصعيد فعمت الدنيا في ساعة واحدة هدمت بنيان مصر فمات تحت الهدم خلق كثير، ثم امتدت إلى الشام والساحل فهدمت مدينة نابلس فلم يبق فيها جدار قائم إلا حارة السمرة ومات تحت الهدم ثلاثون ألفا، وهدمت عكة والصور وجميع قلاع الساحل، وامتدت إلى دمشق فرمت بعض المنارة الشرقية بجامع دمشق، وأكثر الكلاسة والبيمارستان النوري وعامة دور دمشق إلا القليل، وهرب الناس إلى الميادين وسقط من الجامع ستة عشر شرفة وتشققت قبة النصر، وتهدمت بانياس وهونين وتبنين، وخرج قوم من بعلبك يجنون الريباس من جبل لبنان فالتقى عليهم الجبلان فماتوا بأسرهم، وتهدمت قلعة بعلبك مع عظم حجارتها ووثيق عمارتها، وامتدت إلى حمص وحماه وحلب والعواصم، وقطعت البحر إلى قبرص وانفرق فصار أطوارا وقذف بالمراكب إلى الساحل فتكسرت، ثم امتدت إلى أخلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة، وأحصي من هلك في هذه السنة على سبيل التقريب فكانت ألفَ ألف إنسان ومائة ألف إنسان، وكانت قوة الزلزلة في مبدأ الأمر بمقدار ما يقرأ الإنسان سورة الكهف، ثم دامت بعد ذلك أياما. انتهى. وهونين بضم الهاء، وتبنين بكسر التاء وسكون الباء الموحدة ونونين بينهما ياء تحتية، قلعتان في بلاد بشارة تابع بلد صيدا وهما الآن خراب. وبالجملة فإن قلعة بعلبك قلعة عظيمة، وأبنيتها عجيبة غريبة، تدل على أنها آثار قديمة، ووصفنا هذا لها كان بعضه بالمعاينة وبعضه بالإخبار ممن كانت بلاده بعلبك أو تكرر له الدخول فيها من صغره إلى كبره وله بها معرفة تامة من الثقات الأخيار.. ولبلدة بعلبك خمسة أبواب واحد مسدود والأربعة: الأول يسمى باب دمشق، والثاني باب نحلة، والثالث باب حمص وهو الذي يخرج منه إلى الثلاثة أحجار والحجر الكبير المعهود، والرابع باب المدينة لم يزل الله مساعدا لمن يلج منه ومعينه.
ثم ذهبنا بعد ذلك ثانيا مع الباشا سلمه الله تعالى إلى رأس العين، فاتسع بنا ذلك المرج الأخضر وجلسنا منه على الرأس والعين، حتى قلنا في ذلك المنظر البهي، والحسن الذي يبتدي في الشوق إليه المنتهي.. ثم اجتمعنا هناك بدفتردار دمشق الشام، وجرت بيننا وبينه منادمة وملاطفة وكلام، حتى أنشدت قولي من النظام، في ذلك المقام.. ثم إن الدفتردار حفظه الله تعالى كان ناظما في ذلك الوقت أيضا بيتين باللغة الفارسية، فأنشدنا إياهم فكان ذلك من توافق الخاطر في هذه القضية.. وأصله أن الباشا حفظه الله تعالى أرسل إليه غلاما يدعوه إلى الحضور عنده، فقال في نظمه هذا ما معناه: جاء غلام وقال الباشا يدعوك إلى مكان اسمه رأس العين، فقلت أنت اذهب وأنا أجيء أمر الجليل الكبير على الرأس والعين. ثم ذهبنا عشية النهار، بالسكينة والوقار، إلى زيارة قبر الشيخ طاوس قدس الله سره، وغيره من القبور التي هناك مستقرة. ثم دخلنا إلى جامع الحنابلة، وهي حضرة مباركة فاخرة، لأداء صلاة العشاء الآخرة، فاجتمعنا هناك برجل من المغاربة الشاذلية، في حجرة لطيفة داخل الجامع شمالية، وأخبرنا أنه قصد الحج الشريف من بلاد المغرب، فنزل في مركب في البحر مع جماعة ظاهر حالهم عن الافتقار يعرب، ثم إن الرياح اختلفت عليهم، والأمواج تلاطمت لديهم، حتى آيسوا من النجاة ولم يبق لهم مستند إلا الله، وصار ماء البحر عندهم في داخل المركب مقدار قامة، وهم يسبحون فيه وقد يئسوا من الإقامة، فرأوا طيرين أخضرين في طرف من أطراف المركب، ثم إن الله تعالى أعانهم فنضحوا الماء منه بعدما كان إلى المنكب، ويسر الله تعالى لهم السلامة، وأنجاهم ببركة دعاء الصالحين، واعتقاد الأولياء والمقربين، من تلك المهلكة وأعطى كل واحد منهم مرامه، ثم قرأنا الفاتحة، ودعونا الله تعالى لجميع إخواننا بالعافية الصالحة، وأنه تعالى يقضي لكل واحد منهم مصالحه. ثم خرجنا وذهبنا مع حضرة الباشا أعزه الله تعالى بعد صلاة العشاء الأخيرة إلى الحمّام، وهو بيت لطيف الهواء والماء كأن أنابيبه الثغور ذات الابتسام، فتنعمنا فيه بلطائف النعيم، ومن حصول التنعم بالحميم، وقد قلنا في هذا المعنى، وأهجنا غانية المعتنى.. وكان معنا ذلك الحمار المتقدم فيه الكلام، فلم يوجد له ببعلبك اصطبل يربط فيه غير محكمة النائب التي يكون فيها فصل الأحكام، وكان السبب في ذلك أن نائب بعلبك هرب، فكأنهم جعلوه بلا عن النائب، وحيوان بدل عن إنسان هذا من العجب..
ثم أقمنا في الثلث الأخير من الليل ليلة الاثنين، وهو اليوم السابع بعدما قرت بنومها العين، وركبنا فتوجهنا إلى جهة البقاع العزيز، ومررنا في الطريق فقرأنا الفاتحة لنبي الله عز الدين ونبي الله الرشادي حين قربنا من قبريهما بقدر ماغيز، إلى أن خرج الفجر، فصلينا الصبح في الطريق وأدركنا في الصلاة بالجماعة الثواب والأجر. ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى قرية تمنين، بكسر المثناة الفوقية، فنزلنا على عذب ذلك الماء المعين، وتذكرنا بذلك الماء الزلال عين قرية من قرى دمشق وهي منين، وفي ذلك نقول، وهو قول مقبول.. ثم سرنا حتى وصلنا إلى قرية نبي الله أيلا، بفتح الهمزة وسكون الياء، ويقال أنه أخو يوسف بن يعقوب عليهم السلام، فصعدنا إليه في ذلك الجبل وترحينا من بركاته عطاء ونيلا، وزرناه وصلينا الظهر بالجماعة هناك، وإذا بجماعة من العرب اتخذوا ضيافة ووفوا أنذرا لهم فكان لنا معهم في ذلك الطعام اشتراك، ووجدنا في الجهة المرتفعة من ذلك المزار، ماء جاريا في فسقية مبلط ما حولها بلطائف الأحجار، مؤذنة بأنه كان عليها في الزمان الأول قبة مرتفعة، والماء ينزل إليها من عين في أعلى الجبل متسعة، ووجدنا حجرا كأنه كان مبنيا في تلك القبة، وهو موضوع على العكس في بنيان هناك وأحرف كتاباته منكبة، فقرأناه بعد جهد جهيد، ووجدنا فيه أبياتا متضمنة تاريخ بناء تلك القبة الذي كان مشيد، وهذا النظم منسوب إلى السيد عبد الكريم من أهل كرك نوح عليه السلام، وهو قوله عليه رحمة الملك العلام.. وذلك في سنة تسع وتسعين وتسعمائة، والجيس المذكور في الأبيات مكان منتزه في الفرزل، بضم الفاء وسكون الراء المهملة وزاي مضمومة ولام، قرية هناك. وقلنا في مدح تلك الحضرة على حسب التيسير، هذا النظم القليل..
ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى قرية الكرك المتقدم ذكرها، فزرنا فيها قبر النبي نوح عليه السلام وفاح لنا من طي جوانبه نشرها، ورأينا طول قبره بمقدار قبر شيت عليهما السلام، وذلك مقدار أربعين ذراعا مائة وعشرون بالشبر التام، وفوق قبره حيلول من الخشب بمنزلة السفينة المقلوبة، وقد صفت فوقها الكراميت من الفخار المشوي كأسطحة بلاد الروم وحول القبر رابزانات منصوبة، وذلك القبر في صحن الجامع المبلط بالأحجار، وحول ذلك الصحن جدران الجامع مبنية بالحجارة المنحوتة وفيها شبابيك الحديد تطل من العلو على تلك المروج والأقطار، والجامع مبني مع القرية وفوق الجبل، وفيه محراب ومنبر وله منارة لطيفة فوق رأس القبر بها ذلك الحسن اكتمل، وربما قال مؤذنها مكان حي على الصلاة حي على خير العمل، وفي طرف صحن الجامع قبة مبنية من الأحجار المنحوتة، وتحت القبة فسقية يجري فيها الماء من ماء القرية تطل تلك القبة على تلك الجهات المنعوتة. وقال الهروي في الزيارات: ومن أعمال مدينة بعلبك قرية يقال لها الكرك بها قبر نوح عليه الصلاة والسلام، وذكر أصحاب السير أن قبر آدم ونوح وسام وإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام في أرض المقدس بالمفازة والله أعلم، وقيل قبر آدم بالهند بوادي سرنديب، وقيل بجبل أبي قبيس والله أعلم، وبالكرك أيضا قبر جبلة ابنة نوح. انتهى كلامه. قلت: ولم أعلم أن قبر ابنة نوح هناك فلم أزره وما سمعت به من أهل القرية، وفي كتاب المقاصد الحسنة في بيان الكثير من الأحاديث المشهورة على الأسنة للشيخ السخاوي رحمه الله تعالى قال نقلا عن شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني: ومن القبور ما يذكر بجبل لبنان من البقاع أنه قبر نوح عليه الصلاة والسلام، وإنما حدث في أثناء المائة السابعة. انتهى. وقوله إنما حدث في أثناء المائة السابعة يدفعه ذكر الهروي له، فإن وفاة الهروي وهو علي ابن أبي بكر في المائة السادسة كما في تاريخ ابن خلكان، وقد ذكر أن بالكرك قبر نوح عليه السلام، ويدفعه أيضا ما ذكره الشيخ الإمام شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي في كتاب المشترك: إن بالكرك قبر طويل تزعم أهل تلك الناحية أنه قبر نوح عليه السلام، وكانت وفاة ياقوت المذكور بحلب في العشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، وفي حاشية جد والدنا شيخ الإسلام مفتي الأنام الشيخ إسماعيل النابلسي رحمه الله تعالى على تفسير البيضاوي في سورة هود عليه السلام أن نوحا عليه السلام عمل سفينة من الساج وهو شجر عظيم يجلب من بلاد الهند، وقيل من خشب الصنوبر، وفي تفسير القرطبي عن عمرو ابن الحارث أنه قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق وقطع خشبها من جبل لبنان. انتهى. فعلى هذا يمكن أن يكون نوحا عليه السلام هو المدفون في الكرك، وهو القبر المشهور لأنها كانت أرضه وموضع سكناه وضع الفلك.. وحين أقبلنا على قرية نوح عليه السلام وجدنا بها جماعات من القرعون يريدون أن يعملوا مولدا للنبي صلى الله عليه وسلم ليلا في ذلك المقام، فحضرنا معهم في تلك الضيافة، وحصل لنا بذلك حظ وافر وزيادة لطافة.
ثم ركبنا وسرنا بين مياه ورياض، وأزهار وغياض، وجبال وصخور، وحصى كأنها قلائد النحور، إلى أن وصلنا قرية نبي الله شيت عليه السلام، وكان ذلك قبيل الظهر، وليس في تلك القرية منبر ولا خطيب ولا إمام، فخالفنا أهلها وصلينا الصلوات بالجماعة على وجه الإجلال والإكرام، ورأينا مسجدا فيه محراب، اشتقوا له من اسمه فحاربوه، وقد سمعناهم يسمونه التكية، وفيه قنديل معلق بالجهة الشرقية، على خلاف المعتاد في القضية، إلا أنا وجدنا فيها شيخا من أهلها عنده احتفال بمن يرد عليه وإكرام، وقد تقيد بنا وانطلق معنا فيما توجهنا إليه من المرام، وقد زرنا قبر نبي الله شيت عليه أبلغ التحية والإنعام، فرأيناه قبرا عظيما عليه مهابة وجلال واحتشام، ومقدار طول ذلك القبر نحو الأربعين ذراعا، وعرضه يبلغ باعا وباعا، فوقفنا عنده ودعونا الله تعالى بأنواع الدعاء، وصلينا هناك ما تيسر لنا وامتلأ بالأجور منا الدعاء. وقد ذكر الشيخ الإمام علي بن أبي بكر الهروي رحمه الله تعالى في كتابه الزيارات بعد ذكر الكرك التي هي من أعمال البقاع التي بها قبر نوح عليه السلام فقال: وقبر شيت بن نوح، وقيل قبر شيت بجبل أبي قبيس، والصحيح أن الذي بأبي قبيس هو قبر شيت بن آدم والله أعلم. ثم في زيارات الحجاز جبل أبي قبيس قال: وقيل قبر شيت في جبل أبي قبيس والله أعلم. وذكر في أول كتابه المذكور فقال: وأنا أستعيذ بالله من شر حاسد ومن نكد معاند، يقف على ذكر بعض الصحابة والتابعين وآل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى ذكر بعض الآثار فيقول قرينا في التاريخ الفلاني ضد ذلك، وذكر فلان غير هذا، وأنا فما أشك في قوله ولا أطعن في حديثه، إلا أني ذكرت ما شاع خبره وذاع ذكره بطريق الاستفاضة والله أعلم. وقد ذكر بعض أصحاب التواريخ جماعة من آل الرسول عليهم السلام ومن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم قتلوا وماتوا ببلاد الشام والعراق وخراسان والمغرب واليمن وجزائر البحار، ولم أر في أكثر هذه الأماكن ما ذكروه، ولا شك أن قبورهم اندرست وآثارهم طمست، وذهبت آثارها وبقيت أخبارها، والزائر له صدق نيته وصحة عقيدته، وقد ذكروا أيضا بلادا وأماكن وطرقات لا تعرف الآن، لتقادم العهد وتغير الزمان، انتهى كلامه. ولا شك أن قبور الأنبياء عليهم السلام من هذا القبيل، بل بالأولى والأحرى لتقدمهم على ما ذكر بكثير لا بقليل، فلا قطع بتعيين قبر نبي أصلا إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مدفون بالمدينة المنورة على طريق التواتر والعلم الذي لا شك فيه استفاضة ونقلا، فالزائر لقبر نبي من أنبياء الله عليهم السلام محصل للبركة بالاستعمال على حسب صدق نيته في الزيارة، والله أعلم بحقيقة الحال. وهناك عند رأس قبر شيت قبة عجيبة على أربعة أركان، مبلط أرضها بالأحجار وهي متقنة غاية الإتقان، وفي وسطها صهريج محكم من الأحجار غاية الإحكام، يجتمع إليه الماء من سطح النبي شيت عليه السلام، وفم الصهريج مجعول كالفسقية، وهو في مكان مرتفع مطل على تلك البرِّية. وكانت ليلتنا بالنبي شيت عليه السلام ليلة برغوثية، وذلك الجامع الذي بتنا فيه بل تلك التكية، كانت علينا بالحر محمية، وكان معنا حمار لبعض الأصحاب كثير النهاق، فوضعه تلك الليلة في ثلاثة بيوت وصوته المرعاد المبراق، صوت قوي لا يكاد يطاق. وكان ذلك الحمار لرجل من أهالي دمشق الشام اسمه فتح الله، فأخذه ابنه منه بلا إذنه وجاء معنا على فتح الله.
ثم لما أصبحنا في اليوم الخامس وهو يوم السبت المبارك، ركبنا وركب معنا شيخ قرية النبي شيت ونحن معه في المسير نتشارك، فتوجهنا نحو قرية الكرك لزيارة نبي الله نوح عليه السلام، وإذا برجل يركض خلفنا بجواده مطلق العنان واللجام، ومعه مكتوب من حضرة الباشا الأجل، والصدر الذي من بالغ في كمالاته فقد أخل، وهو مقبل من بعلبك المحروسة، يدعونا إلى زيارة الشيخ عبد الله اليونيني والتملي بحضرته المأنوسة، فوقفنا في ذلك الطريق، وتوقفنا عن المسير ساعة ثم انفرج ذلك الطريق، وأجمعنا على إجابة ما دعينا إليه، وقرأنا الفاتحة إلى نوح صلوات الله وسلامه عليه، وتوجهنا إلى بلدة بعلبك بالخير، نتسارع في تلك الصحراء تسارع الطير. والكرَك هنا بالتحريك على ما هو مشهور بين العامة، وهو كرك نوح عليه السلام، قال الشيخ الإمام ياقوت الحموي في كتابه المشترك: الكرك بفتح الكاف وفتح الراء وكاف موضعان، فالكرك قلعة مشهورة حصينة في طريق البلقاء من أرض الشام من ناحية جبال الشراة، يُنسب إليها أحمد بن طارق القرشي أبو الرضى من طلاب الحديث المكثرين، مات في بغداد في ذي الحجة من سنة اثنين وتسعين وخمسمائة. والكرك أيضا قرية كبيرة من نواحي بعلبك، بها قبر طويل تزعم أهل تلك الناحية أنه قبر نوح عليه السلام. انتهى. ووجدنا في هامش الكتاب المذكور بخط العلامة الشيخ أحمد المعروف بابن مكتوم النحوي، وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، قال عند ذكر أحمد بن طارق ما نصه: ذكر ابن نقطة في باب الكرْك بسكون الراء فقال قال أبو طاهر إسماعيل بن الأنماطي الحافظ بدمشق: هو منسوب إلى قرية في أصل جبل لبنان يقال لها الكرْك بسكون الراء، وليس هو من القلعة التي يقال لها الكرَك بفتح الراء، قال ابن نقطة: وكان ثقة متقنا لما يكتبه خبيث الاعتقاد. وقال ابن النجار في التاريخ: أخبرني أبو الحسن ابن القطيعي قال: سألت أبا الرضى بن طارق عن نسبة الكرك فقال: بالشام ثلاثة مواضع كل واحد منها يسمى الكرك، فأحدها عند الشوبك بأرض فلسطين، وموضع عند طبرية، وموضع بالبقاع بين بعلبك ودمشق، ونحن من هذا الموضع وكان جدي سنان قاضيا به فهاجر إلى بغداد وقطن هناك. انتهى. وقال في القاموس: وكرك بالفتح قرية بخلف جبل لبنان، وبالتحريك قلعة بنواحي البلقاء. انتهى. فعلى هذا يكون كرك نوح بفتح الكاف وسكون الراء، وكرك الشوبك بفتح الكاف وفتح الراء كما وقع في عبارة ابن أم مكتوم عن ابن نقطة وهو الذي فيه القلعة بنواحي البلقاء لأنه قائل في القاموس بالفتح. ثم إننا مررنا في الطريق بأشجار العنب لنبي الله شيت عليه السلام بما تسميه العامة كرما، وقد ورد في الحديث النهي عن تسمية العنب كرما، ولهذا عدلنا عنه في الكلام. ومررنا على وادي بَلِيتار في طريقنا إلى بعلبك، وبليتار قرية من قرى بعلبك، بفتح الباء الموحدة وكسر اللام.
ثم لم نزل كذلك إلى أن وصلنا إلى تلك البلاد، وارتوت منا بمياهها العذبة حرارة الأكباد، فابتدأنا في أول وهلة بزيارة الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى، وهي نسبة إلى يونين قرية من قرى بعلبك، وكان أصل الشيخ عبد الله رضي الله عنه منها، كما ذكر في كتاب مناقب الشيخ قدس الله سره وفي كتاب الذيل على كتاب الروضتين في أخبار الدولتين كلاهما للشيخ شامة رحمه الله تعالى، وسمعنا من أهل تلك البلاد أن القرية اسمها يونين، وأفادنا بعض أهلها أنه رأى في كتب الأوقاف القديمة المؤرخة بالمائة الخامسة والسادسة اليونيني، والقرية اسمها الآن حتى في الدفاتر السلطانية يونين. انتهى كلامه. وقال ياقوت الحموي في كتاب المشترك: يونان موضعان، بضم الياء وسكون الواو ونونين بينهما ألف، يونان موضع بُرّان بضم أوله وتشديد ثانيه منه إلى برزغة سبعة فراسخ، ويونان من قرى بعلبك. وقال في القاموس: ويونان بالضم قرية من قرى بعلبك. انتهى. فلعل القرية يقال لها يونين كما يقال لها يونان أو أن ذلك من استعمال البعليين وتحريفاتهم فإن ألسنتهم إلى الإمالة أميل كما أفادنا بذلك بعض أهلها فكان من جملة لطائفه أو أن ذلك من تغير النسب، فإن اللحن المشهور في ذلك خير من الصواب الغير مشهور، لأن المقصود من النسبة التعريف وهو حاصل باللحن، فالصواب إعجام في الكلام... وفي كتاب مناقب الشيخ عبد الله اليونيني رحمه الله تعالى أن عمره جاوز ثلاثا وثمانين سنة، وتوفي يوم السبت في عشر ذي الحجة سنة سبع عشر وستمائة، وكانت وفاته غريبة، وذلك أنه نزل يوم الجمعة يصلي بجامع بعلبك وهو صحيح البدن ليس به ألم، وكان دخل الحمام قبل الصلاة ثم أتى الجامع فرأى داود المؤذن وكان يغسل الموتى، فقال له: ويحك يا داود انظر كيف تكون غدا، فلم يفهم الإشارة وقال: يا سيدي كلنا غدا في غفارتك، ثم صعد الشيخ إلى الراوية وكان صائما، وقد أمر الفقراء أن يقطعوا صخرة عند اللوزة التي كان ينام تحتها ويجلس عندها، وكان بقي منها قدر نصف ذراع فقال لهم: لا تطلع الشمس غدا إلا وقد فرغتم منها، وبات طول ليلته يدعو الإضحاء حتى طلع الفجر، فصلى بجماعته وجلس على صخرة كان يجلس عليها، واستقبل القبلة قاعدا وبيده سبحة، وقام الفقراء يتممون قطع تلك الصخرة حتى فرغوا وقد طلعت الشمس وهم يظنونه نائما والسبحة في يده على حالها، ثم حضر إليه خادم من القلعة فظنه نائما فحركه فوجده ميتا رضي الله عنه، فارتفع الصباح والصراخ حتى حضر الملك الأمجد، فأراد أن يبني عليه بنيانا وهو على حاله ذلك، فقالوا له: اتباع السنة أولى، ثم جهزوه وغسله داود المذكور الذي قال له الشيخ: يا داود انظر كيف تكون غدا، ودفن عند الصخرة التي قطعها الفقراء تحت اللوزة رحمه الله تعالى، ثم دفن حوله من الأبدال والأولياء خلق كثير. انتهى ما نقلناه من كتاب المناقب ملخصا. ثم إننا توجهنا إلى الدخول في بلدة بعلبك المعمورة، لأجل تتميم الزيارة لمزاراتها المشهورة، فخرج إلى لقائنا صدر الصدور، ومفخر أرباب الورود والصدور، حافظ تلك البلاد حضرة محمد الباشا حفظه الله تعالى بجماعته وخدمه وعسكره وحشمه، واجتمعنا به في خارج البلاد على أحسن حالة، ثم رجع معنا فدخلنا من الباب بأكبر هيبة وجلالة، وقرأنا الفاتحة بالقرب من باب المدينة من جهة الخارج لروح الشيخ عبد الرزاق ابن الشيخ العارف الرباني عبد القادر الجيلاني، قدس الله روحه ونور ضريحه، فإن مزاره هناك، وله إلى ذلك الطريق باب وشباك، ثم ذهبنا معه إلى دار الإمارة، فتلقانا بالإجلال والإكرام وذلك على كمال محبته لنا أمارة، ونزلنا في بيت بعض الأصدقاء والأحباب، وكنا نجتمع في غالب الأوقات، على نهاية الانبساط والاقتراب، من المنادمة والمسامرة، من النهر وإلى ما بعد العشاء الآخرة، ثم أمر بإخراج الخيمة العظيمة ذات النقوش المختلفة، لأجل الاجتماع والمؤانسة وانشراح النفوس المؤتلفة، فضربت تلك الخيمة لنا في ذلك المرج الأخضر، والروض الأزهى الأزهر، عند المكان المسمى برأس العين، فانشرح الصدر وقرت العين، وترقرقت هاتيك المياه اللطيفة، وانسابت في ذلك الجدول وهي بنا مطيفة.. ولفظ بعَلبك بفتح الباء وفتح العين وسكون اللام وفتح الباء الثانية وهي لغة عامية، واللغة الفصيحة بعلبك بفتح الباء وسكون العين وفتح اللام والباء الثانية.. وجلسنا بالقرب من تلك العين، التي يفترق ماؤها فرقتين، ثم يجري بالزلال البارد للصادر والوارد، وعند تلك العين ذلك المسجد المعلق المذكور، وهو الآن مكان خراب يدور به الماء من جميع جوانبه بكرة وعشية، ويقال أنه كان فيما مضى من الزمان تكية للمولوية، وبالقرب منه أيضا جامع خراب، له منارة وهو متسع الجوانب وفيه منبر منهدم ومحراب. ثم خرجنا في اليوم السادس وهو يوم الأحد إلى زيارة الشيخ عبد الله اليونيني أيضا نفعنا الله ببركاته، مع حضرة الباشا أسلمه الله تعالى وباقي جماعاته، وانشرحت صدورنا في تلك الحضرة المأنوسة، وتشعشعت أسرارنا في هاتيك المقامات المحروسة، ودعونا الله تعالى بإنجاح المقاصد والمهام، وتحقيق المراد والمرام، لجميع من كان معنا من الخاص والعام، وابتهلنا في ذلك المكان المبارك، وتوسلنا إلى الله تعالى وتبارك، أن ينصر عساكر الإسلام، وييسر أمور المسلمين، ويفتح الفتح المبين، ويمن بالإنعام التام، ويصلح أحوال إخواننا بمقتضى الإعزاز والإكرام. وقد قصدنا التفرج على قلعة بعلبك العجيبة، التي تذكر بأبراجها بالسماء ذات البروج من حسن تلك الأبنية الغريبة، فذهبنا مع حضرة الباشا حفظه الله تعالى حتى صعدنا إلى ذلك البناء الهائل، الذي هو أثر من آثار الأوائل، وقد ذكر الهروي في زياراته أن بعلبك الوادي والصخرة الهائل، وقيل: فيه أنزل وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، والصحيح أن الوادي هو وادي القرى، وقوم ثمود به كانوا. انتهى. وأخل بعلبك يسمون بالواد بالسكون موضع ذلك الحجر الكبير المسمى بحجر الحبلة الآتي ذكره، ويزعمون أن ذلك المكان كان مقطعا لتلك الأحجار الكبيرة التي بنيت منها القلعة، فإن في الآية جابوا الصخر أي قطعوا الصخر، وقال أيضا: وقلعة بعلبك من عجائب الدنيا وليس في بلاد الإسلام ما يشاكلها إلا أبنية خراب بناحية اصطخر من بلاد فارس، وتزعم أهل فارس أن الضحاك هو سليمان بن داود عليه السلام، وهذه الأبنية عمرتها الجن له والله أعلم. انتهى كلامه. وبلغنا أن الجن عمرت لسليمان عليه السلام بيت المقدس وقلعة بعلبك مع قلعتها، وهذا أمر ظاهر يشهد له الحس، فإن هذه العمارات العظيمة لا تقدر على عملها الإنس، ورأينا الذي يصدق ذلك قوله تعالى: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وأرسلنا له عين القطر، ومن الجن من بعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات) والجفان جمع جفنة وهي القصعة، والجوابي جمع جابية والجابية الحوض الكبير، فإنا رأينا تلك الأبنية الهائلة في قلعة بعلبك، وتلك المحاريب المزخرفة، والتماثيل المختلفة، والأعمدة العظام، والصخور الجسام، فقلنا: إن هذه الآية ربما أشارت إلى هذه الأبنية التي تتحير فيها الأفهام، وتشخص إليها عيون الأنام. وأول ما اشتملت عليه هذه القلعة أن عند بابها نهر يجري وفيه تدبغ الجلود، وعلى باب القلعة صخرة كبيرة هائلة قطعة من جلمود، وداخل الباب على جهة الميسرة برج عظيم، ودهليز طوله نحو مائتي ذراع معمول بالقبو المتين الجسيم، وفيه دهليز آخر على الميمنة نحو مائتي ذراع، وداخله دهليز آخر قدر الأول بلا نزاع، وبجانب الباب الثاني الذي للقلعة، برج كبير على الميسرة يحتاج الداخل إليه إيقاد الشمعة، وهناك دهليز طويل، وخارج الدهليز ساحة القلعة التي ما لها من مثيل، ويدور بتلك الساحة قناطر ومحاريب فيها تصاوير وتماثيل، وداخل القلعة إلى جهة الشمال، برج لا سقف له وليس له اشتمال، غير أن فيه درجا صغيرا ينزل منه إلى نهر هناك، وخارج القلعة من جهة الشمال قنطرة كبيرة من حجر فيه اشتباك، يجري منها الماء قديما إلى القلعة، ذات التحصين والمنعة، وفي داخل القلعة تسعة عواميد طول كل واحد منها نحو الثلاثين ذراعا وأكثر والله أعلم، مصفوفة في الهوا قريب ما بينها بمنزلة الأصابع فوق ذلك القبو المحكم، وثخانة كل عمود منها ثلاثون شبرا عرضا، وكل عمود له قاعدة تحته من الحجر المنحوتة قدر خمسة أذرع طولا وخمسة أذرع عرضا، ومن فوق هذه الأعمدة عمارة عجيبة، محكمة البناء غريبة، طول كل حجر منها خمسة أذرع في عرض خمسة، فكأن الباني أراد بها البقاء ولم يذكر يومه وأمسه، ومن جهة الشرق فوق الخندق أربعة عشر عمودا، مثل التي ذكرناها قواعد وقدودا، وفوق تلك الأعمدة عمارة عظيمة، وسقف من الحجر المنحوت كالطوان العجمي ولكنها أبنية قديمة، وفي وسط القلعة أيضا أربعة عشر عمودا كالأعمدة المذكورة، ولها قواعد من الحجارة المنحوتة، في مقدار تلك القواعد المزبورة، وحول تلك العواميد فوق القواعد قطع من النحاس كبار بمنزلة السواعد، عمل على قلعها بعض الناس، فكسروا أطراف العواميد من الأسفل وأخذوها على وجه الاختلاس، وفوق تلك العواميد في الهواء عمارة عظيمة، بأحجار كالقواعد التي في الأسفل بل أعظم منها مهندسة على هيئة مستقيمة. وأخبرني جماعة أنه مرة صعد رجل فوق تلك العمارة التي فوق العواميد فوجد هناك شاقوفا بلغ وزنه ثمانون رطلا برطل بلاد بعلبك، وهو مقدار رطل ونصف بالرطل الدمشقي، وذلك الشاقوف معمول من الحديد. ورأينا نحن قاعدة من الحجر قطعة واحدة أكثر من خمسة أذرع طولا في خمسة باعتبار العرض، كأنها كانت فوق عمود من تلك الأعمدة فوقعت على الأرض، وتحتها قبو القلعة وهو على حاله لم يتأثر من وقعها، وقد رُدم بعضها بالتراب ولكن لم يخف قدر وسعها، وفي وسط القلعة شباك من الحجر داخله برج كبير عريض طويل، يدور به من جميع جوانبه محاريب فيها صور وتماثيل، وفي داخل هذا البرج عمود فيه ثقب بدرج على شكل اللولب، يُصعد منه إلى ظهر البرج المطل على البساتين وعلى قبر الشيخ عبد الله اليونيني قدس الله سره، فكأن نور ضريحه من بعيد كوكب، وفي داخل هذا البرج سبع قاعات مظلمات، لا تتبين إلا بإيقاد الشمعات النيرات، وفي داخل تلك القاعات قبة صغيرة فيها ماء راكد، أخبرني بعض الناس أن ذلك الماء كان مرصودا أنه متى قفلت أبواب القلعة لقصد قاصد، جرى ذلك الماء وسال من سور القلعة إلى الخارج ودام جريانه للصادر والوارد، وهناك بئر يقال له بئر الصياح سده بن معن لما هدم القلعة خاصيته أنه متى حوصرت القلعة وجد فيها الماء، وكلما زاد الحصار زاد الماء، وكان مرصودا في ذلك، وفي سقف هذا البرج صور حية وعقرب فتحا فميهما، وصورة طبل وزمر على هيئة الضرب بهما، وكل ذلك من الحجر الأبيض الصلد منحوت، يظل الناظر فيه مبهوت، وكذلك في قبو الدهليز الذي يُدخل منه إلى القلعة، صور رجال ينظرون إلى الداخلين منحوت من الحجارة الصلبة ذات المنعة، وهناك برج آخر له سقف من الحجارة بيان شكل القاعة، وفي ذلك السقف قفاعة، وفي وسط ذلك البرج إيوانان تجاه كل منهما قبة لطيفة، وفي أحد هاتين القبتين درج طويل يقال أنه كان حبسا لأصحاب الأمور المخيفة، وخارج باب هذا البرج درج نحو أربعين درجة، يُصعد منه إلى أعلى ذلك البرج بمراقي منفرجة، وتحت هذا البرج برج آخر يُنزل إليه بنحو أربعين دركة، وفي أثناء هذه الدركات حجرة صغيرة من الحجارة المشتبكة، وفي ذلك البرج الأسفل إيوان وأربعة قبب، كل ذلك من الحجر الصلد المنحوت المنتخب، وفي ساحة القلعة بئر ماء كبير تتحير فيه النظار، وليس له قرار، وفي الساحة أيضا بحرة كبيرة جميعها قطعة واحدة من حجر واحد مردومة جوانبها بالتراب، ومن الجهة القبلة خارج القلعة عمود مجوف يقال أنه بمنزلة الطالع لماء القلعة لكنه الآن خراب، وفي حائط القلعة القبلي نحو أربعين حانوتا مبنية بالأحجار، يقال أنه كان سوق هناك في الزمان الأول لبضاعات التجار، وفي الحائط القبلي من سور القلعة مدماك كله ثلاثة أحجار، طول كل حجر منها خمسة وثمانون قدما وعرضه خمسة وثلاثون قدما شبر من الأشبار، وخارج السور مقبرة في جانبها حفرة كبيرة وفي داخلها قطعة واحدة طوله وعرضه بقدر حجر واحد من تلك الأحجار الثلاثة المذكورة، تسميه العامة حجر الحبلة وليس له موضع إليه من ينزل، وبجانبه صخرة كبيرة مستديرة يسمونها المغزل، وكان قديما للقلعة باب كبير من جهة الغرب، وهو الآن مسدود فليس إليها منه درب، وكان إليها باب يُخرج منه إلى الدباغة يقال أنه أصل الأبواب، وكانت عامرة مسكونة وقد رأينا هناك جماعة أدركوها كذلك قبل أن تصير خراب، وكان الذي خربها ابن معن أمير الدروز والتيامنة، بسبب ما وقع بينه وبين بني الحرفوش في بعلبك من الحروب والعداوة الكامنة، والظاهر أن خرابها متقدما كان في حدود سنة سبعة وتسعين وخمسمائة لما ذكر أبو شامة رحمه الله تعالى في ذيله على كتاب الروضتين نقلا عن تاريخ ابن المظفر سبط ابن الجوزي قال: وجاءت في شعبان يعني سنة سبع وتسعين وخمسمائة زلزلة هائلة من الصعيد فعمت الدنيا في ساعة واحدة هدمت بنيان مصر فمات تحت الهدم خلق كثير، ثم امتدت إلى الشام والساحل فهدمت مدينة نابلس فلم يبق فيها جدار قائم إلا حارة السمرة ومات تحت الهدم ثلاثون ألفا، وهدمت عكة والصور وجميع قلاع الساحل، وامتدت إلى دمشق فرمت بعض المنارة الشرقية بجامع دمشق، وأكثر الكلاسة والبيمارستان النوري وعامة دور دمشق إلا القليل، وهرب الناس إلى الميادين وسقط من الجامع ستة عشر شرفة وتشققت قبة النصر، وتهدمت بانياس وهونين وتبنين، وخرج قوم من بعلبك يجنون الريباس من جبل لبنان فالتقى عليهم الجبلان فماتوا بأسرهم، وتهدمت قلعة بعلبك مع عظم حجارتها ووثيق عمارتها، وامتدت إلى حمص وحماه وحلب والعواصم، وقطعت البحر إلى قبرص وانفرق فصار أطوارا وقذف بالمراكب إلى الساحل فتكسرت، ثم امتدت إلى أخلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة، وأحصي من هلك في هذه السنة على سبيل التقريب فكانت ألفَ ألف إنسان ومائة ألف إنسان، وكانت قوة الزلزلة في مبدأ الأمر بمقدار ما يقرأ الإنسان سورة الكهف، ثم دامت بعد ذلك أياما. انتهى. وهونين بضم الهاء، وتبنين بكسر التاء وسكون الباء الموحدة ونونين بينهما ياء تحتية، قلعتان في بلاد بشارة تابع بلد صيدا وهما الآن خراب. وبالجملة فإن قلعة بعلبك قلعة عظيمة، وأبنيتها عجيبة غريبة، تدل على أنها آثار قديمة، ووصفنا هذا لها كان بعضه بالمعاينة وبعضه بالإخبار ممن كانت بلاده بعلبك أو تكرر له الدخول فيها من صغره إلى كبره وله بها معرفة تامة من الثقات الأخيار.. ولبلدة بعلبك خمسة أبواب واحد مسدود والأربعة: الأول يسمى باب دمشق، والثاني باب نحلة، والثالث باب حمص وهو الذي يخرج منه إلى الثلاثة أحجار والحجر الكبير المعهود، والرابع باب المدينة لم يزل الله مساعدا لمن يلج منه ومعينه.
ثم ذهبنا بعد ذلك ثانيا مع الباشا سلمه الله تعالى إلى رأس العين، فاتسع بنا ذلك المرج الأخضر وجلسنا منه على الرأس والعين، حتى قلنا في ذلك المنظر البهي، والحسن الذي يبتدي في الشوق إليه المنتهي.. ثم اجتمعنا هناك بدفتردار دمشق الشام، وجرت بيننا وبينه منادمة وملاطفة وكلام، حتى أنشدت قولي من النظام، في ذلك المقام.. ثم إن الدفتردار حفظه الله تعالى كان ناظما في ذلك الوقت أيضا بيتين باللغة الفارسية، فأنشدنا إياهم فكان ذلك من توافق الخاطر في هذه القضية.. وأصله أن الباشا حفظه الله تعالى أرسل إليه غلاما يدعوه إلى الحضور عنده، فقال في نظمه هذا ما معناه: جاء غلام وقال الباشا يدعوك إلى مكان اسمه رأس العين، فقلت أنت اذهب وأنا أجيء أمر الجليل الكبير على الرأس والعين. ثم ذهبنا عشية النهار، بالسكينة والوقار، إلى زيارة قبر الشيخ طاوس قدس الله سره، وغيره من القبور التي هناك مستقرة. ثم دخلنا إلى جامع الحنابلة، وهي حضرة مباركة فاخرة، لأداء صلاة العشاء الآخرة، فاجتمعنا هناك برجل من المغاربة الشاذلية، في حجرة لطيفة داخل الجامع شمالية، وأخبرنا أنه قصد الحج الشريف من بلاد المغرب، فنزل في مركب في البحر مع جماعة ظاهر حالهم عن الافتقار يعرب، ثم إن الرياح اختلفت عليهم، والأمواج تلاطمت لديهم، حتى آيسوا من النجاة ولم يبق لهم مستند إلا الله، وصار ماء البحر عندهم في داخل المركب مقدار قامة، وهم يسبحون فيه وقد يئسوا من الإقامة، فرأوا طيرين أخضرين في طرف من أطراف المركب، ثم إن الله تعالى أعانهم فنضحوا الماء منه بعدما كان إلى المنكب، ويسر الله تعالى لهم السلامة، وأنجاهم ببركة دعاء الصالحين، واعتقاد الأولياء والمقربين، من تلك المهلكة وأعطى كل واحد منهم مرامه، ثم قرأنا الفاتحة، ودعونا الله تعالى لجميع إخواننا بالعافية الصالحة، وأنه تعالى يقضي لكل واحد منهم مصالحه. ثم خرجنا وذهبنا مع حضرة الباشا أعزه الله تعالى بعد صلاة العشاء الأخيرة إلى الحمّام، وهو بيت لطيف الهواء والماء كأن أنابيبه الثغور ذات الابتسام، فتنعمنا فيه بلطائف النعيم، ومن حصول التنعم بالحميم، وقد قلنا في هذا المعنى، وأهجنا غانية المعتنى.. وكان معنا ذلك الحمار المتقدم فيه الكلام، فلم يوجد له ببعلبك اصطبل يربط فيه غير محكمة النائب التي يكون فيها فصل الأحكام، وكان السبب في ذلك أن نائب بعلبك هرب، فكأنهم جعلوه بلا عن النائب، وحيوان بدل عن إنسان هذا من العجب..
ثم أقمنا في الثلث الأخير من الليل ليلة الاثنين، وهو اليوم السابع بعدما قرت بنومها العين، وركبنا فتوجهنا إلى جهة البقاع العزيز، ومررنا في الطريق فقرأنا الفاتحة لنبي الله عز الدين ونبي الله الرشادي حين قربنا من قبريهما بقدر ماغيز، إلى أن خرج الفجر، فصلينا الصبح في الطريق وأدركنا في الصلاة بالجماعة الثواب والأجر. ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى قرية تمنين، بكسر المثناة الفوقية، فنزلنا على عذب ذلك الماء المعين، وتذكرنا بذلك الماء الزلال عين قرية من قرى دمشق وهي منين، وفي ذلك نقول، وهو قول مقبول.. ثم سرنا حتى وصلنا إلى قرية نبي الله أيلا، بفتح الهمزة وسكون الياء، ويقال أنه أخو يوسف بن يعقوب عليهم السلام، فصعدنا إليه في ذلك الجبل وترحينا من بركاته عطاء ونيلا، وزرناه وصلينا الظهر بالجماعة هناك، وإذا بجماعة من العرب اتخذوا ضيافة ووفوا أنذرا لهم فكان لنا معهم في ذلك الطعام اشتراك، ووجدنا في الجهة المرتفعة من ذلك المزار، ماء جاريا في فسقية مبلط ما حولها بلطائف الأحجار، مؤذنة بأنه كان عليها في الزمان الأول قبة مرتفعة، والماء ينزل إليها من عين في أعلى الجبل متسعة، ووجدنا حجرا كأنه كان مبنيا في تلك القبة، وهو موضوع على العكس في بنيان هناك وأحرف كتاباته منكبة، فقرأناه بعد جهد جهيد، ووجدنا فيه أبياتا متضمنة تاريخ بناء تلك القبة الذي كان مشيد، وهذا النظم منسوب إلى السيد عبد الكريم من أهل كرك نوح عليه السلام، وهو قوله عليه رحمة الملك العلام.. وذلك في سنة تسع وتسعين وتسعمائة، والجيس المذكور في الأبيات مكان منتزه في الفرزل، بضم الفاء وسكون الراء المهملة وزاي مضمومة ولام، قرية هناك. وقلنا في مدح تلك الحضرة على حسب التيسير، هذا النظم القليل..
ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى قرية الكرك المتقدم ذكرها، فزرنا فيها قبر النبي نوح عليه السلام وفاح لنا من طي جوانبه نشرها، ورأينا طول قبره بمقدار قبر شيت عليهما السلام، وذلك مقدار أربعين ذراعا مائة وعشرون بالشبر التام، وفوق قبره حيلول من الخشب بمنزلة السفينة المقلوبة، وقد صفت فوقها الكراميت من الفخار المشوي كأسطحة بلاد الروم وحول القبر رابزانات منصوبة، وذلك القبر في صحن الجامع المبلط بالأحجار، وحول ذلك الصحن جدران الجامع مبنية بالحجارة المنحوتة وفيها شبابيك الحديد تطل من العلو على تلك المروج والأقطار، والجامع مبني مع القرية وفوق الجبل، وفيه محراب ومنبر وله منارة لطيفة فوق رأس القبر بها ذلك الحسن اكتمل، وربما قال مؤذنها مكان حي على الصلاة حي على خير العمل، وفي طرف صحن الجامع قبة مبنية من الأحجار المنحوتة، وتحت القبة فسقية يجري فيها الماء من ماء القرية تطل تلك القبة على تلك الجهات المنعوتة. وقال الهروي في الزيارات: ومن أعمال مدينة بعلبك قرية يقال لها الكرك بها قبر نوح عليه الصلاة والسلام، وذكر أصحاب السير أن قبر آدم ونوح وسام وإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام في أرض المقدس بالمفازة والله أعلم، وقيل قبر آدم بالهند بوادي سرنديب، وقيل بجبل أبي قبيس والله أعلم، وبالكرك أيضا قبر جبلة ابنة نوح. انتهى كلامه. قلت: ولم أعلم أن قبر ابنة نوح هناك فلم أزره وما سمعت به من أهل القرية، وفي كتاب المقاصد الحسنة في بيان الكثير من الأحاديث المشهورة على الأسنة للشيخ السخاوي رحمه الله تعالى قال نقلا عن شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني: ومن القبور ما يذكر بجبل لبنان من البقاع أنه قبر نوح عليه الصلاة والسلام، وإنما حدث في أثناء المائة السابعة. انتهى. وقوله إنما حدث في أثناء المائة السابعة يدفعه ذكر الهروي له، فإن وفاة الهروي وهو علي ابن أبي بكر في المائة السادسة كما في تاريخ ابن خلكان، وقد ذكر أن بالكرك قبر نوح عليه السلام، ويدفعه أيضا ما ذكره الشيخ الإمام شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي في كتاب المشترك: إن بالكرك قبر طويل تزعم أهل تلك الناحية أنه قبر نوح عليه السلام، وكانت وفاة ياقوت المذكور بحلب في العشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة، وفي حاشية جد والدنا شيخ الإسلام مفتي الأنام الشيخ إسماعيل النابلسي رحمه الله تعالى على تفسير البيضاوي في سورة هود عليه السلام أن نوحا عليه السلام عمل سفينة من الساج وهو شجر عظيم يجلب من بلاد الهند، وقيل من خشب الصنوبر، وفي تفسير القرطبي عن عمرو ابن الحارث أنه قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق وقطع خشبها من جبل لبنان. انتهى. فعلى هذا يمكن أن يكون نوحا عليه السلام هو المدفون في الكرك، وهو القبر المشهور لأنها كانت أرضه وموضع سكناه وضع الفلك.. وحين أقبلنا على قرية نوح عليه السلام وجدنا بها جماعات من القرعون يريدون أن يعملوا مولدا للنبي صلى الله عليه وسلم ليلا في ذلك المقام، فحضرنا معهم في تلك الضيافة، وحصل لنا بذلك حظ وافر وزيادة لطافة.
يوسف مصطفى دناوي عمر 35
ردحذف