التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الزبداني في العهد الروماني "2"

وبعد أن استحوذ بمبايوس على سورية سنة (64ق.م) أقام فيها أميليوس سكادورس واليا ثم خلفه الولاة، على أنه ترك بعض الحكام القدماء على مناصبهم تحت إمرة الوالي الروماني، ومن هؤلاء الملوك النبطيون الذين كانوا يلون دمشق وما جاورها من البلاد. ثم أصبحت
الأبيلية (وهي المعروفة اليوم بسوق وادي بردى) وما جاورها تحت إمرة هيرودوس الذي كان أميرا على فلسطين وما جاورها. وبعد وفاته انتقلت ولاية الأبيلية إلى ابنه ليسانياس بن هيرودوس كرئيس ربع على الأبيلية. والحاصل أن الرومانيين بعد استحواذهم على سورية عهدوا بتدبير شؤونها إلى ولاة رومانيين يقيمهم الملوك وأبقوا في بعض الأعمال الأخر على ولاة من الأسرات التي كانت تليها قبلا إلى أن نسخوا ولايتهم على التعاقب. وكذا أبقوا في لبنان الشرقي وما جاوره على أسرة بتلمايس بن مينا أي على ليسانياس الأول وابنه زينودر وعلى ليسانياس الثاني الوارد ذكره في بشارة لوقا، ولاة على كلشيس (عنجر في لبنان الشرقي) والأبيلية (سوق وادي بردى) وما يليهما، ولم نعثر على غير اسم هؤلاء من هذه الأسرة فكأن الرومانيين نسخوا ولايتهم بعد موت ليسانياس الثاني. (تاريخ سورية، المطران يوسف الدبس).

وفي العهد الروماني تم تقسيم سورية إلى ثلاث ولايات كل منها تسمى سورية، وكانت سورية المجوفة إحداها وفينيقيتان، الأولى وتسمى فينيقية البحرية، وعاصمتها صور، ومن مدنها: عكا وصيدا وبيروت وجبيل والبترون وطرابلس وإرواد، والثانية وتسمى فينيقية الداخلية، وعاصمتها حمص، ومن مدنها: بعلبك ودمشق وتدمر، وقد ظل هذا التقسيم حتى الفتح العربي الإسلامي.

وأما أخبار هذه المنطقة الداخلية (حسب ما ورد في تاريخ سورية للمطران يوسف الدبس) فكان يحكم كلشيس عنجر بتلمايس بن مينا، وكان شيخ عرب رحل في أنحاء دمشق يسطو على أبناء السبيل وذلك في سنة (85ق.م)، فأرسلت إليه ألكسندرة أرملة ألكسندر ملك اليهود ابنها أرسطوبولس ليردعه عن سطوه على دمشق، ولما أتى بمبايوس إلى دمشق سنة (63ق.م) كان بتلمايس حاكما في كلشيس فأبقاه على ولايته بعد أنّ غرَّمه مبلغا وافرا من المال، إلى أن مات بتلمايس سنة (40ق.م) وخلفه ابنه ليسانياس، ولم يهنأ ليسانياس بملكه كثيرا لأنّ ملكة مصر كيلوباترة حملت أحد قوادها على قتله سنة(34ق.م)، وكان ليسانياس حاكما في كلشيش والأبيلية وفي لبنان الشرقي وبعلبك وامتد حكمه إلى بانياس والسهول المحاذية لها إلى بحيرة الحولة، وبعد مقتل ليسانياس خلفه ابنه زينودر، وفي سنة (23ق.م) أبقى أوغسطوس لزينودر كلشيش والأبيلية وبعلبك، ووجدت مسكوكات لزينودر مؤرخة سنة (32 و30 و26ق.م)، ومات زينودر سنة (19ق.م) في أنطاكية.

وفي سنة (1737م) وجد الرحالة الإنكليزي الشهير بوكوك صحيفة في أخربة الأبيلية في حائط معبد صغير كتب عليها ما يُبيِّن أنه كان في أيام طيباريوس حاكم يسمى ليسانياس رئيس الربع في الأبيلية، وقد تأكد لدى المؤرخين أنّ موقع الأبيلية هو سوق وادي بردى الآن، والتي تقع في سفح جبل لبنان الشرقي من جهة الشرق، ومما حقق ذلك خطوط وُجدت في هذا المحل ومنها خطان نُقشا على جانبي الطريق المفتوحة هناك، كتب في الأول: ((إنّ العاهلين مرقس أريليوس ولوشيوس فاروس أريليوس فتحا طريق النهر بخرقهما الجبل على نفقة أهل الأبيلية بعناية فاروس صديقهما والي سورية))، وهذا الخط كتب حوالي سنة (150ق.م)، وأما الخط الثاني فكتب فيه: ((لسلامة الملكين أنطونيوس وفاروس أقام هذا النصب نذرا فالوسيوس مكسيموس قائد الفرقة السادسة عشر الذي وقف على العمل)).

وقد ورد في دائرة معارف لاروس الفرنسية ما معناه: ((إنّ أبيلا أو آبل مدينة قديمة في سورية المجوفة كائنة في غربي دمشق في أسفل جبل سنير، وهي اليوم  قرية تُدعى سوق وادي بردى، وقد كانت هذه المدينة قاعدة مملكة يرأسها ليسانياس، وسمّّى الرومان هذه المملكة أبلية، وفي فلسطين أبلية أخرى تُدعى اليوم آبل وفيها قبر هابيل بن آدم))، والإفرنج يُسمّون المملكة المربعة (ABILEN) ومنه سميت بالعربية أبلية.

ومملكة الأبيلية هذه أسسها الرومانيون في عهد طيباريوس قيصر وولوا عليها ملك الربع ليسانياس، وكانت قاعدتها أبيلا التي هي الآن سوق وادي بردى في إقليم الزبداني، وهذه المملكة مؤلفة من أربعة مقاطعات: الجليل (غربي طبريا)، والجيدور (غربي حوران)، واللجا (شرق حوران)، والأبيلية (غربي دمشق)، وكانت هذه المملكة متسعة تصل حدودها إلى لبنان وفلسطين، وقصبتها أبيلا التي لم تكن منحصرة في مكانها الحالي في أعماق وادي بردى بل كانت أكبر من ذلك تصل مبانيها إلى وادي القرن على طريق دمشق بيروت، وقد ورد اسم الأبيلية في تذكرة لوقا البشير عندما ذكر مجيء يوحنا المعمدان لينذر في اليهودية  إذ قال: ((في سنة خمسة عشر من ملك طيباريوس قيصر في ولاية بيلاطيوس النبطي على اليهودية وهيرودس رئيس الربع على إيطورية وكورة أنطرخون وليسانياس رئيس الربع على الأبيلية وحنانا وقيافا رئيسا الكهنة كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا)). قلت: علماً أنّ يوحنا أي: يحيى وُلد وعيسى عليهما السلام في نفس العام، وهما ابنا الخالة، وبُعث يحيى وهو في الخامسة عشرة كما ورد في القرآن، وقُتل بعد ذلك بسنة كما في كتب التاريخ.

وفي عهد سبتيموس ساويروس كانت آسيا الرومانية مقسومة إلى اثني عشر إقليما، وكان الإقليم الثامن والتاسع سوريا وعاصمتها أنطاكية، ثم ضُمَّت هذه الإمارات على التعاقب إلى إقليم سوريا (72م) وحتى (106م)، وأما في عهد ساويروس فقسَّم سوريا إلى قسمين، وجعل القسم الأول إلى الشمال والقسم الثاني في الجنوب والشرق وذلك في عام (200م)، وقد نسخ الرومانيون ولاية أسرة بتلمايس بن مينا عن حكم الأبيلية بعد موت ليسانياس الثاني، واعتمدوا بعد ذلك في ولاية دمشق وما جاورها على بني غسان (الغساسنة)، فكانوا يستعملونهم في هذه البلاد، ولما كان هؤلاء طوع أيدي الرومانيين استمروا على ذلك إلى ظهور الإسلام وفتح الخلفاء لدمشق. يقول الخوري أيوب سميا: ((إنّ التكية (قرية تقع جنوب الزبداني على الطريق إلى دمشق) بلدة بناها الإمبراطور ذاكيوس سنة 239م، وإنّ والي الأبيلية أجرى فيها بعض الإصلاحات وأطلق عليها اسم ذاكية تكريما للإمبراطور المذكور، ثم أصبح اسمها التكية في عهد الملك الأشرف خليل بن قلاوون سنة 1293م، ومن ثم تخرَّبت مع بقية القرى بفعل الزلازل والفيضانات)). قلت: وقد أعيد إعمارها بعد ذلك وكانت تسمى تكية الدورة لأنها تقدم الطعام والشراب والمنامة بشكل مجاني وعلى مدار الساعة لمن يمر بها ثم خربت بعدها، وقد مر بها الشيخ عبد الغني النابلسي سنة (1689م) وكانت خرابا حيث قال في كتابه (حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز): ((ثم كان مرورنا بتكية الدورة، بفتح الدال المهملة وسكون الواو والتاء المستديرة، وهي في أرض سهلة ذات اخضرار، كأنها جنة القرار، ورأينا التكية المذكورة وهي خراب، بعدما كانت عامرة ووقفها يجري عليها للمارة بها على وجه الصواب... ورأينا بيوت التركمان نازلين بالقرب منها، على ذلك الماء الجاري من غير بعد عنها)). قلت: والذي فهمته من تاريخ قرية التكية أنها بنيت سنة (239م) ثم تخربت في الفتح الإسلامي حوالي سنة (636م)، ثم أعيد بناؤها ثم تخربت حوالي (1300م) بالفيضانات والزلازل، ثم أعيد بناؤها وأخذت اسم التكية ودورها وكان لها وقف يجري عليها ثم خربت الخراب الأخير قبل (1700م).  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الزبداني في العهد العثماني "1"

استولى العثمانيون على بلاد الشام بقيادة السلطان سليم الأول عام (1516م) الموافق (922هـ) بعد معركة مرج دابق شمال حلب، وأتبعت الزبداني وأعمالها إلى والي دمشق.