يقول الخوري إلياس داود في (أوراقه): ((إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الشعب السامي الأول هم الأموريون، وأنّ الشعب السامي الثاني هم الكنعانيون، وأنّ الشعب السامي الثالث هم الآراميون، نكون قد بدأنا بداية تاريخية تحدد مواصفات أهالي الزبداني القدماء أنهم من الشعوب السامية. والزبداني
لا تختلف عن دمشق في هذه الفترة بالنسبة لحياة سكانها الأوائل والتي لا نعرف عنها إلا القليل، والمعول عليه أن دمشق كانت مركزا لدولة آرامية، وتبرز التقاليد الإسلامية أن إبراهيم من مواليد برزة الكائنة شمال دمشق، وورد في الكتاب المقدس أن إلعازر الدمشقي الموكل على بيت إبراهيم من هذه المدينة. تكوين 14/15)).
كانت مدينة الزبداني من تأسيس الآراميين (الألف الثانية قبل الميلاد) الذين هم أول سكان هذه البلاد، وهم من نسل سام بن نوح، نسبوا إلى جدهم آرام بن سام بن نوح، وهم الذين أسسوا مدينة دمشق ونسبوها إلى جدهم سام أو شام، وما دمشق إلا اسم آرامي وضعي لها، وفي عصر وضعهم دمشق وضعوا مدنا مثل الزبداني، السفيرة (قرية مندثرة غرب الزبداني)، حلبون، حرَّان العواميد، الأبيلية (سوق وادي بردى)، منين، صيدنايا، ولم تذكر الزبداني في التاريخ القديم كما ذكرت دمشق التي كان أول ذكر لها في القرن العشرين قبل الميلاد حينما زارها إبراهيم الكلداني وكانت عاصمة مملكة، ومن توابعها الزبداني التي كانت حاكمية تابعة لها.
وأنقاض الزبداني الآرامية القديمة مندثرة تحت المدينة الحاضرة كأنقاض دمشق، وما كان منها قليلا ظاهرا كسره الأهالي لبناء منازلهم ومعاهدهم، وأما معالمها الآرامية فإليك بعضها:
(1) اسمها وأسماء بعض أراضيها كالسويسة والحازورة والجرجانية وشحرايا والحاووش والشليات.
(2) بعض قطع أعمدة وحجارة ضخمة في أسافل بعض جدرانها الحالية.
(3) كنيسة النبي يوحنا المعمدان: التي كان في بدئها معبدا وثنيا، ولما قبل أهله الدين المسيحي حولوه إلى معهد مسيحي، وموقعه كان في وسط البلدة عند الجامع الكبير (الجسر)، ويمتد إلى مسافة (100متر) شرق الجامع الحالي، ولا تزال منه بقايا حجارة ضخمة في جدران بعض البيوت المجاورة.
(4) دير النحاس (معبد الإله زابادوني): وهو المعبد الآرامي الأقدم، يقع خارج البلدة، في الجهة الشمالية الشرقية منها، ويوجد أنقاض معبد آرامي شاهدها الكاتب (أيوب نجم سميا) عام (1929م)، ومنها حجر بطول ستة أذرع وعلو متر، ومنها قاعدة عمود ضخم تبلغ المتر والنصف علوا والمتر عرضا، واليوم لا يوجد منها إلا القليل لأنّ الأهالي استعملوا الحجارة لبناء منازلهم ومعاهدهم، والمرجح أنّ هذه الخرابة العظيمة هي معبد الإله زابادوني في المنطقة زمن الآراميين.
(5) عبادة الإله بعل: أوجد الآراميون إلها سموه (بعل) ويعنون به العمل المنتج للتناسل، وهذا الإله وُجد في آن واحد عند الآراميين والمصريين ولا يُعلم من منهما السابق به، وقد سُمَّيت مدينة (بعلبك) في لبنان باسمه، ومن الآراميين تسللت عبادته إلى العرب القدماء، فعرفه بعضهم باسم اللات وبعضهم بالاسم الصريح لعضو الرجل، ومنهم من عرفه باسمه الآرامي (البعل)، واستعمل العرب اسم البعل للتعبير عن زوج المرأة أنه (بعلها) لأنه العامل على إنتاج النسل، وقد انتقلت عبادة الإله بعل إلى الفلسطينيين والفينيقيين ومنهم إلى الإسرائيليين في القرن التاسع والعاشر قبل ميلاد المسيح، وبما أن سكان الزبداني القدماء كانوا من الآراميين فقد كانت موجودة عندهم عبادة الإله بعل، ومن بضع عشر سنة (العشرينات من القرن العشرين) عثر أحد أهالي الزبداني على عدد من التماثيل لذلك العضو (الصنم) من فخار وبعضها من الحجر ولكن بأحجام صغيرة، فاحتفظ ببعضها وأعطى البعض لغيره، وكاتب هذه السطور (أيوب نجم سميا) احتفظ بواحد منها من الحجر، وقد عبد اليونان الإله بعل باسم ميليت (الزهرة)، وللمؤرخ اليوناني هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل المسيح كلام مستفيض عن كيفية عبادة تلك الأمم لذلك الإله، وهو يصف ما شاهده بعينه.
(6) قنوى وبردى: ذكر (قنوى) بهذا الاسم إبراهيم بن محمد بن عرفة المتوفى سنة (925م) في كتابه (التاريخ) وذلك في كلامه عن نبع بردى، وكانت في عصره بلدة عامرة قرب نبع بردى، وعنه أورد ذكرها في نفس الموضوع ياقوت الحموي المتوفى سنة (1228م) في كتابه (معجم البلدان) فقال: ((نهر دمشق الأعظم قال نِفْطَوَيْه هو بردى ممال يكتب بالياء مخرجه من قَرية يقال قَنْوَا من كورة الزبداني بفتح فسكون على خمسة فَراسخ من دمشق مما يِلي بَعْلبَك يظهر الماء من عيون هناك ثم يصب إِلى قَرية تعرف بالفيجة على فَرسخين من دمشق))، وكانت في عصر ياقوت الحموي دسكرة آيلة إلى الخراب. واسم (قنوى) آرامي قديم ومعناه: القصب، وأصله قنا (بضم النون)، وقد عُرِّبت إلى قنوى، ومنه في العربية القنا والقناة، وقد ذكرت هذه البلدة في تواريخ السريان ومنهم ميخائيل الكبير بطريرك اليعاقبة المتوفى سنة (1200م). وفي سنة (1768م) فرغ الزبيدي من تأليف الجزء الأول من كتابه (تاج العروس) وذكر فيه قنوا في سياق كلامه على نهر بردى ولم يذكر شيئا عن خرابها لأنه أعاد ما قاله ياقوت الحموي حيث قال: ((نهر دمشق الأعظم قال نِفْطَوَيْه هو بردى ممال يكتب بالياء مخرجه من قَرية يقال قَنْوَا من كورة الزبداني بفتح فسكون على خمسة فَراسخ من دمشق مما يِلي بَعْلبَك يظهر الماء من عيون هناك ثم يصب إِلى قَرية تعرف بالفيجة على فَرسخين من دمشق)). وقد كان لنهر بردى ينابيع متقاربة تنتج من الصخر في سفح الجبل وتؤلف في المنبسط الذي أمامها بحيرة واسعة تكتنف شواطئها أدغال القصب وتعيش فيها الحيوانات، فبنى آراميو الزبداني الذين كانوا ينتفعون من تلك الأقصاب خياما من الأقصاب على شاطئ البحيرة سَمُّوها قُنا، وكانوا يقيمون فيها أيام العمل، ثم تحولت إلى بيوت دائمة، وقد حصل فيما بعد حادث جيولوجي أدى إلى انهيار الجبل على النبع فأبعد مكان انبجاسه إلى المكان الحالي (هذا الكلام عام 1929م) وأصاب البلدة وأبقى على قليلها، ومن بضع وعشرين سنة ظهرت منها بعض الأنقاض في أرض آل العرقتنجي الدمشقيين هناك أثناء الأعمال، ولهذا الاسم (قُنا) نظائر كثيرة باقية إلى الآن نذكر منها: (قانا الخليل) بالقرب من الناصرة وتُحرَّف إلى (كُنا)، وقانا الفينيقية جنوب شرق صور، وأما بردى BARADA فهو اسم آرامي معناه: البارد، وبصيغة الجمع (BARADAI).
(7) السفيرة: قرية مندثرة تقع غربي الزبداني، وعند سفح الجبل الغربي، واسمها آرامي: شفيرا، وله ثلاثة معاني: جميل، شجرة الطرفاء، نوع جميل من أنواع العصافير، وهذا الثالث هو المرجح لأنه كان يسكن في تلك المنطقة ذلك النوع من العصافير، والسفيرة الآن مساحة واسعة من الأراضي مليئة بالأساسات والأنقاض العظيمة القديمة من آرامية ويونانية، خربت قبل الفتح العربي الإسلامي، وفي مكان عالٍ منها يُسمَّى شحرايا (بالآرامي معناها السواد أو الأسود) مغاور وقبور قديمة، وفي سنة (1918م) وجد الرعاة أمام إحدى المغاور تمثالا من حجر أسود مكسور الذراعين والرأس وفي زناره خنجر كبير فقاموا بكسره، وبعد أيام جاء السفيرة سائح أجنبي تاريخي فقرأ في قطعة من تكاسير التمثال اسم زاباد بالآرامي، وكاتب هذه السطور (الخوري أيوب سميا) شاهد في عام (1929م) تلك الآثار تكاسير التمثال. قلت: وأما كلمة السفيرة بالعربية فإن لها ثلاثة معاني: الكتاب الصغير، والقلادة التي عراها من ذهب، والجارية تنقل رسائل الحب بين متحابين.
تعليقات
إرسال تعليق