انتهى حكم السلوقيين على يد القائد الروماني المشهور (بمبايوس) عام (64ق.م)، وبذلك ابتدأ عهد جديد هو العهد الروماني. والذي يظهر من تاريخ الزبداني في العهد الروماني أنها كانت تتبع مملكة الأبيلية ومركزها
سوق وادي بردى.
وفي مدينة الزبداني عدد كبير من المواقع الأثرية الرومانية سواء في الجبل الشرقي أم في الجبل الغربي وعلى امتداد الجبلين من الشمال إلى الجنوب، وصفة هذه المواقع الأثرية هي الكهوف المنحوتة غالبا للموتى حيث يوجد بداخل كل كهف عدد من القبور المنحوتة في الأرض الصخرية:
(1) البئر الرومانية أو الهوّة العجيبة: تفرد شيخ الربوة شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري الصوفي الدمشقي، وهو من وفيات سنة (727هـ) الموافق (1327م)، بذكر الهوة العجيبة في الزبداني في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر) فقال في سياق كلامه عن نهر بردى: ((ونهر دمشق وسيأتي وصفه عند وصفها، وانبعاثه من مرج الزبداني ومن عين الدلة (قرية مندثرة شمال الزبداني) فوق الزبداني ومن عين الفيجة ومن أعين في طول وادي بردى، وأصل عين بردى من تحت جبل في مرج الزبداني بجنب قرية يقال لها السفيرة (قرية مندثرة جنوب غرب الزبداني)، وفي هذا الجبل هوة عظيمة لم يُعلم لها قرار، بل يؤخذ حجر عظيم يحمله رجلان أو ثلاثة فيلقى في هذه الهوة فلا يُسمع له حس، ومن عجائبه أنه إذا طلع من الهوة بخار ولو كان في أيام الصيف تخرج السحب وتمطر، وهذا صحيح مجرَّب)). قلت: تقع الهوة في إحدى تلال الجبل الغربي في الزبداني (جبل يبوس)، وهي ما تزال قائمة فوق إحدى قمم ذلك الجبل، وقد زرتها أكثر من عشر مرات ما بين عام 1974م وعام 2004م، وفي كل مرة أزورها أزداد تعجبا ودهشة، فهي فتحة دائرية غير منتظمة تشبه فوهة البركان في أرض ليست بركانية، وعندما نقوم بإلقاء حجر فيها فإنه يُعطي أصوات الارتطام بالجدران الحجرية ثم يهوي ومنه سُمِّيت الهوة، ويستغرق الحجر منذ إلقائه حتى استقراره حوالي العشرين ثانية، وقد كنت أظن كما غيري من أبناء هذه البلدة أنّ الهوة تشكلت نتيجة صاعقة أصابت ذلك المكان، وقد ذكر لي أحد الباحثين أنها بئر كارستية طبيعية وهي من أعمق الآبار الكارستية في سورية وهذا يعني أنها تشكلت من ذوبان عرق ترابي داخل الكتلة الجبلية وأن طولها هو (167) متر يضاف إليه (300) متر وصولا إلى الحوض الجوفي لنبع بردى وهي بشكل نقب شاقولي. وقد ذكر بعض الأهالي المعمرين أنه تم إلقاء خيشة من التبن فخرج التبن من نبع بردى بعد مدة. وفي عام 1998م ذهبت لزيارتها بصحبة طالب في كلية الآثار كي يقوم بتقديم دراسة عنها وتقديم الدراسة كحلقة بحث للكلية، وقد فسَّر لي يومها تلك الهوة بقوله: هذه بئر رومانية، والفتحة في قمة الجبل هي فتحة تهوية تتصل مع فتحة البئر بشكل مائل، وأراني النحت اليدوي العرضاني في الجزء الظاهر للعيان من الفوهة والنحت العرضاني ينفي فكرة البئر الطبيعية، وقال: إنَّ فتحة باب الدخول إلى هذا البئر يجب أن تكون موجودة في الثلث العلوي من سفح ذلك الجبل، فإذا دخل الناس من ذلك الباب وجدوا درجا دائريا يحيط بذلك البئر إلى أن يصلوا إلى قعره المائي، فهي بشكل نقب شاقولي عميق جدا يصل حتى (170مترا)، وهذا القعر المائي يتصل بالمياه الجوفية التي تصل إلى نبع بردى، وأراني مقاطع طولية لبئر شبيه لها في جبل يوناني، ويقال أنه في شمال مضايا هوة شبيه بها ولكن أقل عمقا وذكر لي بعض الأصدقاء أنه يوجد هوة شبيهة بها في الجبال شمال شرق سرغايا.
(2) ومن هذه المواقع موقع وادي قاق، ويقع في الشمال الغربي من مدينة الزبداني وعلى بعد (3كم)، حيث تم تسجيله من قبل مديرية آثار ريف دمشق بالتعاون مع مجلس مدينة الزبداني عام (2008م)، ويتوضع الموقع الأثري على سطح هضبة تسمى جنينة الدير، ويضم بقايا معمارية بسيطة من العصرين الروماني والبيزنطي أهمها أساسات لبعض الجدران التي مازالت قائمة، وخزانا لتجميع المياه مبني بالحجارة بطريقة متقنة، وكذلك يوجد مجموعة من المدافن المحفورة بصخور الجبل نحتت فوق أحدها تماثيل نصفية للموتى وكتب نص جنائزي، وبقايا مبان من العصرين الروماني والبيزنطي، وعلى قمة الهضبة بقايا منشأة تسمى دير البنات استخدمت على الأغلب كحصن مراقبة، وإلى الشمال قليلا جنينة الدير التي تعرضت آثارها للتخريب والتجريف بشكل أساء إلى الموقع الأثري وتنبع أهمية الموقع من كونه أحد المواقع الكثيرة المنتشرة في المنطقة والتي تشير إلى ازدهارها في العصرين الروماني والبيزنطي، وعدم اقتصار السكن فيها على مدينة الزبداني أو مراكز البلدات الحالية، بل امتد إلى الجبال الغربية، ونفس الشيء بالنسبة للجبل الشرقي، الذي يضم عشرات المواقع الصغيرة السكنية والدينية والدفاعية. (وكالة سانا).
(3) ومن هذه المواقع شير القُتَلى، وهو موقع أثري روماني يقع غرب مدينة الزبداني وعلى بعد (3كم)، حيث يوجد كتلة جبلية مرتفعة عن الأراضي التي تقع جنوبها حوالي خمسين مترا، ويرتفع الشير عن سطح البحر (1500) مترا، وبأعلى الكتلة الصخرية أرض منبسطة شبه مربعة بمساحة دونمين (2000م2)، وفي هذه الباحة أساسات حجرية لغرف مزالة، وفي الجهة الغربية لهذه الباحة كتلة صخرية مرتفعة حوالي الثلاثة أمتار وفيها قبر منحوت في الصخر وهو على درجتين: قبر سفلي مغطى بلوح صخري وقبر علوي امتداد للسابق وله أيضا غطاء، وطول القبر (180سم) وعرضه (60سم) وارتفاعه (80سم) وتتجمع المياه فيه فتبقى إلى منتصف الصيف، وفي الجهة الشرقية من باحة الشير يوجد مغارة اتجاه بابها نحو الجنوب وفيها عدة قبور منحوتة في الأرض وفي جدران المغارة أقواس منحوتة نحتا بدائيا مما يدل على قدم هذه المغارة في العهد الروماني، كما يوجد قبر مزدوج (قبر داخل قبر) قريبا من هذه المغارة، وفي الجهة الشمالية لباحة الشير يوجد آثار حجرية تدل على مدخلين أحدهما للمشاة والآخر للعربات والخيل، كما يوجد في باحة الموقع حفرتان أو ثلاث تشبه التنور حيث تتألف الحفرة من قاع أوسع من الفتحة وعمقا (150سم) ومن جدران مطيَّنة بمواد قاسية، وربما تكون هذه الحفر لخزن الحبوب أو المياه، كما يوجد مغارة من جهة شمال الباحة وإلى الغرب وبابها باتجاه الشمال ومنحوت بشكل قوس ومنخفض عن الأرض وبداخلها عدد من القبور المنحوتة في الأرض، ولهذا الشير إطلالة جميلة على سهل الزبداني وبالجنوب منه مباشرة الأراضي المسماة عين شخوب. وقد شاهدت هذا الموقع مرات كثيرة كان آخرها عام (2007م).
(4) ومن هذه المواقع كروم شحرايا: الذي يقع جنوب غرب الزبداني حوالي (2كم) حيث يوجد موقع أثري روماني مؤلف من مغارة لها باب ملاصق للأرض ومتجه إلى الشرق وعند الدخول إلى المغارة يوجد بهو مربع مساحته م2 وعمقه (80سم) وتتوزع ستة قبور محفورة في الأرض الصخرية على نصف قوس البهو، طول القبر (180سم) وعرضه (80سم) وارتفاعه (80سم)، وبالقرب من هذا المدفن الروماني يوجد عدة قبور حجرية بارزة طول كل منها (180سم) وارتفاعه (150سم) وعرضه (80سم) ولكل قبر غطاء من الحجر المنحوت وبعض هذه الأغطية مرتفع من جهة ومنخفض من الجهة الأخرى مما يدل على أنها قبور أمراء رومانيين، وقد شاهدت مثل هذه القبور المتحركة في باحة المتحف الوطني بدمشق. كما يوجد بالقرب من المغارة السابقة مساكن رومانية لم يبق منها إلا الأساسات الحجرية المنحوتة، وفي إحداها يوجد قنطرة بشكل قوس محفور في الصخر وبأسفلها تجويف قد يكون معصرة، وكل هذا الذي أصفه شاهدته مرات متعددة كان أولها عام (1972م) عندما كنت طالبا في الصف الرابع وآخرها عام (2005م)، وخلال هذه الفترة الطويلة كانت أيدي الأهالي تعبث بهذه الآثار من خلال التجريف والكسر لحيازة الأرض وزراعتها إلا المغارة فإنها لا تزال قائمة إلى الآن. وللعلم فإن كلمة شحرايا كلمة آرامية وتعني السواد، وربما سميت هذه الكروم بالسواد لكثرة الخضرة فيها كما هي العادة في تسمية المناطق الخضراء بالسوداء لشدة الخضرة مثل سواد العراق.
(5) ومن هذه المواقع قلعة داود: وهي موقع أثري روماني يقع جنوب غرب الزبداني (3كم)، حيث يوجد تلة مرتفعة وفيها مغاور صغيرة أشبه بالطاقات لا أعلم لماذا نحتت هذه المغارات فحجمها صغير لا يصلح للدفن كما أنها بارزة فوق سطح الأرض، كما يوجد كتلة صخرية ارتفاعها حوالي أربعة أمتار ومنحوت فوقها قبران متجاوران ولهما أغطية غير موجودة لكن يدل عليهما حواف القبر من الجهة العلوية، وطول كل قبر (180سم) وعرضه (60سم) وارتفاعه (80سم) ويوجد داخل كل قبر حافة ولها غطاء غير موجود مما يدل على أن القبر مزدوج ومؤلف من قبرين علوي وسفلي، وفي الجهة الشرقية لهذه الكتلة الصخرية حفرة في الجدار على شكل طاقة مربعة طول ضلعها (80سم) وبعمق (60سم)، وبالجهة الغربية من الكتلة الصخرية يوجد حفرتان مثل التنور وعمق الحفرة (150سم) ومن الأسفل أوسع من الأعلى وجدرانها مطيَّنة بنوع قديم من الطينة، وبالقرب من هذه الكتلة الصخرية التي تسمى قلعة داود يوجد مغارات وفيها قبور كما يوجد أساسات حجرية لمساكن رومانية. وقد زرت هذه الموقع مرات متعددة كان آخرها عام (2004م)، وقد تم كسر وتجريف الموقع وردم المغاور وتحويله إلى أراض زراعية من قبل الأهالي ما عدا الكتلة الصخرية فلا تزال باقية إلى الآن.
(6) وكذلك عثرت مديرية آثار ريف دمشق على تمثال من الحجر الكلسي القاسي في منطقة الزبداني يبلغ ارتفاعه قرابة المتر وعرضه حوالي (60سم) ويعود إلى العصر الروماني نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الميلادي، وهو يمثل امرأة جميلة تبدو على وجهها معالم الحزن وترتدي زيا مزخرفا بحراشف السمك المتدرجة. وقال محمود حمود مدير آثار ريف دمشق: ((إن التمثال يكتسب أهميته من كونه أحد التماثيل القليلة التي اكتشفت في محافظة ريف دمشق الغنية بمواقعها الأثرية وهو يعود لإحدى الإلهات التي كانت تعبد في المنطقة وربما تكون الإلهة تيكه التي ارتبط اسمها بنهر بردى خلال العصر الروماني وقد نحت ليوضع في أحد المعابد القريبة من المنطقة التي تم اكتشافه فيها أو في أحد المعابد الصغيرة المخصصة لممارسة الطقوس الجنائزية)). وأضاف حمود: ((إن المرأة تحمل على صدرها صورة صغيرة لوجه واضح المعالم يمثل قلادة تضعها صاحبة التمثال ويعلو رأسها جبهة مثلثية الشكل شبيهة بواجهات المعابد الرومانية)). (وكالة سانا).
تعليقات
إرسال تعليق