إذا كان التوثيق هو ذاكرة الوطن .. فإن المرأة هي ذاكرة الأمة وروح أصالتها وحضارتها .. فأينما توجهت على امتداد مساحة الوطن تجد بصمات تلك المرأة وإبداعاتها وفنونها ماثلة للعيان...
ولا عجب في ذلك فهذا المخلوق اللطيف وما يمتلكه من طاقة وقدرات خصها الله بها استطاعت عبر مراحل التاريخ أن تلعب دوراً نوعياً وتترك بصمة خاصة في الحفاظ على هوية الأمة وتراثها من خلال التمسك بالعادات والتقاليد واستمرار الصناعات التقليدية وحفظ الأغاني والأهازيج وتردادها للأجيال, مع التأكيد على دور التربية في الحفاظ على اللغة وجمالياتها وإن تعددت اللهجات واللكنات المحلية حسب قساوة الطبيعة والمناخ.
في رحلتنا الشاقة هذه والتي تنوعت بين صلابة الصخور وشموخ الجبال وتموجات الوديان, حاولنا قدر الإمكان أن نرصد واقع المرأة في ريف دمشق من خلال النقاط البعيدة عن مراكز المدن انطلاقاً من الوحدات والروابط النسائية, كونها هي المنظمة الأهلية الوحيدة القادرة على التفاعل والوصول إلى هذا النوع من النسيج الاجتماعي.
وقبل الغوص بتفاصيل الحفاظ على التراث نشير إلى أن جغرافية ريف دمشق تمتد على مساحة 18000 كم تتوزع على 8 مناطق و 7 نواحٍ مستقلة و24 مجلس قرية و 67 بلدية من الدرجة الرابعة و 116 قرية و24 مزرعة.
ويتجاوز عدد سكانها حسب الواقع الفعلي ال¯ 3 ملايين نسمة, وهذا بحد ذاته مؤشر على التنوع الثقافي والحضاري وتمازج العادات والتقاليد, وهذا ما شاهدناه في غالبية القرى التي زرناها .. فبالنسبة لمحور مدينة قطنا تتشابه العادات والتقاليد من حيث اللباس والفولكلور ما بين قرى قلعة جندل - بقعسم - عرنة - حينة - حرفا - عيسم - عين الشعرة - وهذه جميعها تمتاز بذات الطابع الشعبي, حيث العرس مختلط وتلبس النساء اللباس المحتشم بالألوان الزاهية والزينة, ويمتد العرس ثلاثة أيام مبرزاً التضامن الاجتماعي والتعاون على أشده في حين الحفلات والدبكات الشعبية هي الغالبة وإن بدأت أجهزة الصوت والإذاعة تدخل هذه القرى.
أما محور سعسع - كناكر ونظراً لقربها من سهل حوران فهناك تشابه بالعادات والتقاليد واللباس وأحياناً باللهجات, فيما قرى دربل, بيت تيما, بيت سابر فتتمتع بتراث مميز لكل منهما مع تشابه العادات والتقاليد والأعراف المستقاة في أغلبها من القيم الروحية.
وإذا عرجنا قليلاً إلى الشريط الممتد من جديدة عرطوز إلى الصبورة فيشعر المرء بأن اللباس الشعبي غير واضح المعالم, وفيه تباين بالعادات والتقاليد نتيجة التأثر بالعائلات الوافدة من مختلف المحافظات نظراً لخصوصية وطبيعة هذه المناطق.
وبالنسبة للصناعات التقليدية فما زالت قائمة حتى الآن كالقش وحياكة الصوف والكروشيه والسنارة وهي متميزة جداً في هذه القرى وإن كانت صناعة البسط تنتشر باتجاه كناكر ( القنيطرة) ناهيك عن الصناعات الغذائية التقليدية كالجبنة البلدية... في حين أخذ الخبز البلدي بالتراجع نتيجة تعدد الأفران.. وفي المناطق التي تكثر فيها الفاكهة تقوم النساء الريفيات بتجفيف وتعليب الفاكهة بطريقة سليمة بعيداً عن المواد الحافظة.
ومن اللافت في هذا السياق أن أم جمال حجازي من كناكر واحدة من عشرات السيدات التي ما زالت متمسكة بلباسها الشعبي منذ 70 عاماً ومحتفظة بنماذج من عرسها حتى الآن.. فهي تحضر كل المناسبات بلباسها الشعبي وتفتخر بذلك.. إلا أن الأهم برأي هذه السيدة هو أن تعلم الأم ابنتها طريقة الحفاظ على التراث عبر صناعة القش وحياكة الصوف وجمع الأقمشة لأن ذلك يشجع الأنثى على كسب مهارات جديدة وفي الوقت نفسه المحافظة على التراث.
وفي الخط الموازي لمدينة القطيفة وما يتبعها من وحدات كالمعضمية - جيرود - رحيبة - العطنة - الناصرية - حلا - تواني - معلولا - جبعدين - عين التينة - فالمرأة ما زالت تتميز بخصوصية الزي الشعبي ذي الكلف العالية, والمؤلف من التنورة المطرزة على الصدر أو المخمل المطرز, فقد تصل الكلفة إلى 10 آلاف ل.س فيما المنديل الأبيض المطرز فيصل سعره إلى خمسة آلاف ليرة, وهو مؤلف من عصبة مقصبة سوداء وتوضع تحت العصبة ما يسمى العوينة وهي عبارة عن قطعة ذهب مشتلة, وبحسب شهود عيان فإن قرية عين التينة ما زالت هي الأكثر محافظة من بين زميلاتها من القرى حتى الآن على العادات والتقاليد من ناحية اللباس للرجال والنساء والأبناء على السواء.. فالقمطة مشكوكة بخرز ( برلون) وغطاء مطرز طويل وأحيانا ًفستان كامل أو بلوز وتنورة قصيرة لكي يظهر منظر البنطال المكشكش.
وفي قرى جبعدين وجوارها فإن الأهالي بشكل عام والمرأة بشكل خاص يفخرون بحفاظهم على التراث الشعبي الذي يعتبرونه هوية وثقافة وعراقة وإن الأنثى هي من تعطي الحياة روحها ومرونتها.وعلى اعتبار أن هذه القرى ما زالت اللغة السريانية قائمة فيها ويتداولها الناس في هذه المناطق فإن الأهالي حريصون كل الحرص على تعليمها للأطفال منذ الصغر وبشكل صحيح إلى جانب اللغة العربية حفاظاً عليها من الاندثار والعمل ما أمكن على غرس هذه المقومات لتبقى ماثلة في أعماق التاريخ كشاهد حي على حضارة هذه الأمة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن كلمة بحبك بالعربي يقابلها بالسرياني كلمة رحموش
نهار : بيموما
الليل : ليليا
جبعدين : غباعوث
الأطفال : بسونوبة
وبالنسبة لمنطقة الزبداني - بلودان - بقين - مضايا - عين حور - سرغايا - حوش بجد - كفير يابوس , مزرعة دير العشاير - الديماس, فإن الوضع لا يختلف كثيراً عن مثيلاتها الأخرى في هذا الريف.. إلا أن أهم الصناعات اليدوية في الزبداني وبلودان هي الصنارة والنول اليدوي وحياكة الصوف حيث تعمل بهذه المهنة الفتيات من مختلف الأعمار إلى جانب القحطات وشك الخرز على الأطراف والتي تتركز في الزبداني بشكل كبير حيث النساء هن الصانعات الأوائل لذلك.
أما الزي واللباس المعتمد فهو طويل مع ربطة على الخصر ومكشكش من الأسفل مع تكسيرة ناعمة بلون أحمر, وعلى الرأس توضع عصبة مشكوكة بخرز ويأتي بعدها غطاء أبيض.
في حين القرى القريبة من دمشق مثل المليحة وعربين وزملكا فقد تأثرت كثيراً بطبيعة دمشق ابتداءً من المنديل ولونه وحجمه.
وضمن محور عين الخضرة - الفيجة يعتبر الفرح في هذه القرى جزءاً من التراث الشعبي الذي يعبر عن القيم الأصيلة لهذا المجتمع من ناحية التعاون والمحبة , فمرحلة التحضير للأفراح لا تقل بهجة عن الفرح ذاته .. إذ تبدأ هذه الفترة بإعلام الأقارب والأحبة والأصحاب عن موعد الفرح ودعوتهم وهكذا يقوم الأقارب بزيارة منزل العروس والعريس للمساعدة في انجاز الخبز على التنور أو الصاج وتنقية الحبوب تمهيداً لتحضير وجبات الطعام وإذا كان هناك خصام بين الأقارب فتتم المصالحة بهكذا مناسبة وتتضامن القلوب لتكتمل بذلك بهجة الأفراح.
بعض الأهازيج
ومن الأهازيج التي تردد في الأعراس على سبيل المثال:
ياعريس مبارك ما عملنالك .. ... من مال بيك وما درنا استعرنالك
هيدي الكرامة لبيك ولشانك ..... .. واجب علي فرحت اليوم ادّامك
ويذكر هنا أن تقاليد العرس الشعبي في الأرياف لها طقوس خاصة في الصباح والمساء من ناحية الخلوة والزفة والرقصات والأغاني المطلوبة والتي هي غالباً من تأليف سيدات المجتمع الموهوبات المتميزات بالقدرة والجرأة على الارتجال وإتمام المقاطع على وزن الأغنية الشعبية المتعارف عليها مثل:
يلي يريد العزة يشتري معدلة ....... أي من يريد أن يصبح في مركز مرموق يجب أن يتزوج سيدة متزنة وعاقلة.
ومن الأغاني التي تستقبل الضيوف من قرية أخرى:
أهلا وسهلا ومرحبتين بكل مين شرف لعنّا
لا تقولوا جايين ضيوف نحنا وأنتو أهلية
هلهلت مكة وقالت يا هلا بالزايرين
ومن بعض الأهازيج الأخرى للعروس ما يقال:
مالك يا عروس مالك... الدنيا فرحة كرمالك
بالكحلة سوسحتيني يا غصن البان
بين المبسم والغرة باقة ريحان
تنقل يا ريم بلادي ... نظراتك تحيي فؤادي
أخيراً يمكن القول إن التمسك بالعادات والتقاليد والقيم الروحية جعلت أبناء الريف محافظين على التراث بشكل رائع من خلال تعليم الجدات والأمهات روابط القربى الوثيقة وتماسك الأسر, والتزاوج المستمر فيما بينهم ساهم إلى حد كبير بالحفاظ على التراث وعادات الأفراح والأتراح.
والأكثر أهمية في هذا المجال ما يتمتع به الريف من خصوصية رائعة نتيجة تعدد الطوائف والعادات والتقاليد, ما جعل التعايش فيما بينهم يأخذ طابعاً أكثر سماحة وعفوية ومنافسة نحو الأفضل.
المصدر :
موقع رابطة شبيبة الزبداني - 2010
z-foryou.alafdal.net
المصدر :
موقع رابطة شبيبة الزبداني - 2010
z-foryou.alafdal.net
باحث زبداني
تعليقات
إرسال تعليق